في حاضر الزمن، تبرز في المشهد الإنساني ظاهرة هي أشبه بالحشرة الحمراء التي تتلف النخيل وتبيد ثمارها، هذه الظاهرة هي مقتل العقل، وهي الحبل الذي يسحبه إلى مشنقة العدمية، وينتج عنه بشر خاوون، ذاهبون إلى الحياة مثل الأواني الفارغة، تسمع ضجيجها ولا تجد فيها محتوى.
اليوم أصبح هناك عداء سافر لشيء اسمه الكتاب، الشباب يرون في الكتاب موضة قديمة، ولا بد من التخلص منها، والعكوف على آلة التخدير السحرية والمسماة بألعاب البلايستيشن، وهي ليس أكثر من لعبة الغرف المغلقة، والتي تحتاج إلى ذكاء وهمي يدفع بالعقل إلى التخلي عن العقل، والدخول في مقامرة خيالية مريبة، تكبل الطفل أو الشاب بأصفاد وأغلال، تجعله مستعبداً لدى هذه القوة السحرية، ولا تمنحه قدرة التفكير والاستدلال والاستنباط والأخذ بالبراهين، بل هي ضمن الحقائب المعدة سلفاً، وتحمل في جعبتها الإجابات الجاهزة، وفي عمق تلك الغرف المغلقة، يقع هؤلاء الأبناء فريسة أعمال شيطانية خبيثة ومغرضة، والهدف منها تفريغ العقل من محتواه وتحويله إلى وعاء مليء بالقاذورات والحثالات ونفايات ما تقذفه آلة تصنيع الدمى والكائنات الخرافية.
نحن أمام اختبار، فإما نكون أو لا نكون، ولكي نكون لا بد وأن نغادر مرحلة تهميش الكتاب، ولا بد أن يكون لنا عود حميد مع خير جليس، وألا نكابر ونغرق في البحر الذي غرق فيه فرعون وقومه، فمن دون الكتاب لا يوجد تطور ولا حياة إنسانية سليمة، ومعافاة من درن الخواء الفكري وشعث الجفاف الثقافي، فالذين صنعوا الأوطان العظيمة لم يكونوا يلعبون البلايستيشن، بل عكفوا على أمهات الكتب، وبحثوا ونقلوا ودرسوا ورفعوا أشرعة الأسئلة، ودخلوا في حوار مع الذات، واستجابوا لرغبة الضمير، واستلهموا من تجارب الآخرين أفكاراً جديدة، وتعلَّموا كيف يروون الذاكرة من خلال احترامهم للكتاب وجعله خير جليس، وفي نهاية المطاف الثقافة هي مسألة سيادية تهم الأوطان، ومن يضعون سياقها الفكري هم أناس مرتبطون بالواقع، ولديهم ما يقدمونه للثقافة، وليست القضية قضية قفزات أرنبية، لا جدوى منها سوى التحايل على الواقع..
نحن بحاجة إلى الكتاب كحاجتنا إلى تصفية الماء من الشوائب.
تدريب الأطفال على الاقتراب من الكتاب، وثم لمسه، ثم احتضانه، هو تدريب على احتضان الحياة، والإحساس بدفئها، والعيش بصفاء، كما هي الغافة في بطن الصحراء، تترعرع وهي تقرأ في عيون الطير، كيف هي الحياة جميلة عندما تبلل الأجنحة بقطرات المطر، إنها الحروف الأولى التي تأخذنا إلى بديهيات وعينا بذاتنا.