ليس هناك صديق وفيّ لبرودة الظلمة، وتلك الأحاسيس التي يوشوش بها الليل للساهرين والعشاق، والمتأملين، مثل الـ«ساكسفون»، لم أجد عاشقاً ولعاً في انسحابات الظلمة، وتتبع ظلال العابرين في تلك الغبشة المبكرة مثله، فإذا حضر الليل، والمدن المشتهاة، حضر الـ«ساكسفون»، ويظل يناجي ألق وأرق المساءات ببوح من الصدر محموم، يضفي على لمعة زرقتها أنساً، تكاد تبصر به الطريق، لصوته وفاء الأصدقاء، وحضورهم كندماء للوقت والريح والبحر، لصوته همهمات كبديل لشهقة العشاق، ودفء أنفاسهم، قد يأخذك بعيداً في الليل والظلمة، لذا اتبع صوته، وأتبع حسه، فثمة مناطق للضوء يقودك إليها، فاغتنمها، لأنه إذا جُن الليل، تسيّد الـ«ساكسفون» المكان، والحضور، وباح بأسراره التي لا يتحملها صدره، وأباح للمنصت أن يسرج أجنحة من صفاء وبشارة، وفرحة تدوم في القلب، وحده من يشعل الأماكن الصغيرة والمنزوية والتي تقبض على ناصية الأرصفة، وحده من يمنح ليل روما، وباريس، ونيويورك ألقاً من لمعة الذهب، ويكون الاشتهاء دون إغواء، فليله لا تتقاسمه النساء، ولا أباريق من عنب، الليل له وحده، هو سيد الحضور، وتاج المكان، هو الزامر الأبدي لتلك الأشياء التي تسعى في الطبيعة، وتمجد عيشها.
اخترعه البلجيكي «ادولف ساكس» عام 1840، المولود في مدينة «دينان» على ضفاف نهر «موز»، عام 1814، كان حرفياً مثل أبيه، وقد نجا في صباه من حوادث مميتة، فقد غرق، وسقط من الأعالي، وابتلع الدهان، كان والده يستخدمه في عمله الحرفي، وفي عام 1842، انتقل إلى باريس، وذلك بعد شهرته التي سبقته في مجال تصنيع الآلات الموسيقية، وهناك أنشأ مشغلاً لحرفته، وفي عام 1845، شارك في مسابقة نظمها الجيش الفرنسي بغية إجراء تعديلات على موسيقى الجيش، وتغيير نمطها السائد، ففاز بالمسابقة بفضل آلاته النحاسية ذات الصوت العالي والمتعدد، وفي عام 1846، حصل «ساكس» على براءة اختراع الـ«ساكسفون»، والتي أخذت كآلة تشق طريق شهرتها في القرن التاسع عشر في فرنسا من خلال الـ«مارشات» العسكرية، ثم تلقفتها الموسيقى الشعبية، وعممتها في العالم موسيقى الـ«جاز» والـ«بلوز» خاصة في أميركا، لكنها لم تعترف بها المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية، ولا فرق الأوركسترا الفلهارمونية، رغم أن إدراج الـ«ساكسفون» كآلة في الأوركسترا كان عام 1844، في حين دخل الـ«ترومبيت» عام 1880، خصيصا لأوبرا «عايدة» للإيطالي «فيردي»، وقبل خمس سنوات احتفلت بلجيكا بمرور مئتي عام على ولادة «ادولف ساكس»، حيث يوجد له تمثال برونزي، ومتحف خاص في بروكسل، أما أشهر من عزف على الـ«ساكسفون» فهو «شارلي باركر» و«لستر يونغو» و«فوستو بابيبتي» والأميركي «كلارنس كليمنز» المعروف بـ«بيغ مان»، ومن العرب، الفنان المصري «سمير سرور» الذي ظهر لأول مرة بآلته خلف عبدالحليم حافظ، وأم كلثوم.. «الساكسفون» جميل وساحر مثل عاشق يرعى عشب الليل، هو صديق للشعر، نديم للحكايات.