يظن بعضهم أن في الاستسلام هزيمة، وانكساراً، واندحاراً، وخواراً، ومغادرة نهائية للظفر بحياة ناجحة. فكرة جهنمية أسقطت في العقل البشري، فتبناها، وعاش على أثرها يمضغ خرافة عدم الاستسلام. في الحكاية القديمة، جيئ برجل، إلى القاضي مغلولاً بالأصفاد، متهماً بقتل ابن جاره. ولما وجه إليه القاضي تهمة القتل، ابتسم الرجل وقال بلهجة هادئة أحقاً، وقبل بالأمر الواقع. ودخل السجن.
ولكن بعد مضي زمن على دخوله السجن، برز القاتل الحقيقي، ولما أعلن القاضي براءة الرجل، نطق الكلمة نفسها قائلاً أحقاً؟ إنها حالة الاستسلام الإيجابية التي تغنيك، عن المراوغة، والاحتجاج الذي لن يؤدي إلا إلى المزيد من المتاعب، والمهالك. قد نجد في مثل هذه المشاعر، ما يفيض بمقتنا للاستسلام، واعتباره ظاهرة سلبية، مريعة، ومقززة.
ولكن ماذا عن استسلام بلد مثل اليابان، في الحرب العالمية الثانية، وقبول إمبراطورها الخضوع للضابط الأميركي واعتبار الهزيمة أمراً واقعاً، ولا مجال للمكابرة؟ إنها الحالة الاستثنائية الفريدة، التي أوصلت اليابان إلى مقدمة الدول الصناعية، وكأكبر اقتصادات العالم، في العصر الحديث.
عندما تهزمك الظروف، فلا يعني أنك لا تملك أسلحة النهوض مرة أخرى، والخروج من عنق زجاجة الهزيمة، المهم أن تقوى على الواقع، وتهزم الخداع البصرية، لتعود مرة أخرى من تحت الأنقاض، مثل ما ينهض الجمر، من تحت الرماد.
الخديعة الكبرى، هي أن ترفض ضعفك في اللحظة ذاتها، وأن تغامر بقدراتك الضعيفة في تلك اللحظة، فتخسر كل ما لديك من قدرات.
الصدق هو سيد المواقف، وهو النقطة التي منها تستطيع إكمال الجملة وتستطيع كتابة العبارة المفهومة، والدالة على إمكانيتك في إيصال المعنى.
نحن نقع في شراك الخدعة البصرية، عندما نعتقد أن الاستسلام، فضيحة، وأن القبول بالأمر الواقع جريمة، وأن الزمن هو لحظة الانتصار على الواقع.
هذه معضلة بشرية لم تحل معادلتها لأن البشر استسلموا للخدعة، ولم يتقبلوا الأمر الواقع. نحتاج إلى عقل، غير العقل الذي نحمله في رؤوسنا، كي نتقبل تغيير الكثير من الأكاذيب التي صنعناها بأيدينا، وصدقناها وذهبنا في الحياة، بحزمة من الأوهام، ومن دون مبالاة بما تؤول إليه حياتنا من فشل ذريع في صياغة مستقبلنا.
لو تخيلنا كم ستخسر اليابان، لو راوغت، ورفضت الاستسلام، مع وجود القوة الطاغية للطرف الآخر.
لو تخيلنا ذلك، سنعرف، مدى ما للاستسلام من قوة رادعة لأي هزيمة، قد نتلقاها، في عدم الاستسلام.