نكبر، ويظل الطفل في داخلنا، يحبو ويصبو إلى قلب يملأه بالحنان. نكبر ولا يكبر القلب، نكبر وفي عيوننا ذلك البريق الأنثوي القديم، الذي ملأ فناء الصدر بشعاع أشبه بخيوط الشمس.
نكبر ولا زال الطريق إلى الأحلام الوردية يمتد بامتداد أفق المضغة بين الأضلاع الغضة، نكبر، ونحن لا زلنا في ريعان الشفة الملتهبة برضاب العفوية، وفطرة التلقي من دون عبوس أو قنوط.
نكبر، ونحن في مرحلة جنينية، عابقة بعطر الأحلام الزكية، نكبر، وتكبر أشواقنا إلى ولوج غابة الطير المحدق في السماء، ناظراً إلى النجمة، وهي ترتل آيات جمالها، ناظراً إلى الغيمة، وهي تظفر جدائلها في صباح مشرق بالفرح.
نكبر، ونحن نتأمل نبوغ الوردة، وهي تعطر أجنحة الفراشات، وتلون أفئدة الغزلان بالبهجة والسرور. نكبر ولا يكبر فينا غير التاريخ وأكاذيبه، وصوره الخيالية الملفقة، نكبر، ولا يكبر فينا غير لاءات الأمس، وهي تتراكم تحت جفوننا مثل القذا، وتغشينا ولا تحمينا من بلل الضباب، ولا غشاوة دخان المعارك العصبية.
نكبر ولا يكبر فينا غير خيال من صوروا الأعمار على أنها أرقاب في بورصة الخسائر، وهبوط مؤشرات الأسهم البائسة. نكبر ولا يكبر فينا غير خوف أم الدويس، وبابا درياه، وغيرهما من أحابيل الليل البهيم، وتصورات ما قبل بلوغ الحكمة.
نكبر ولا يكبر فينا غير صورة ذلك المدرس الذي صفع تلميذاً، لأنه لم يغسل وجهه قبل أن يقرأ قصة ألف ليلة وليلة، نكبر ولا يكبر فينا غير صندوق الأكاذيب، ويبقى الصدق في قلوبنا مثل عيني غزالة برية صافية، متعافية من درن الشوائب والخرائب والمصائب، وكل ما خلفه وهم كهنة الدجل.
نكبر ولا يكبر في داخلنا غير بقعة الزيت التي تركتها سفن الباحثين عن ملجأ، خوفاً من الخوف. نكبر ولا يكبر فينا غير الاعتقاد بأننا قادرون على الاستمرار في الحياة من دون امرأة، ترتب أشياءنا الصغيرة، من دون تعنت ولا تزمت.
نكبر ولا يكبر فينا غير إحساسنا بأننا كبرنا، وعلينا أن نطوي عباءة الأحلام الوردية، ونذهب إلى الحفرة السوداء ثم نقضي فصلاً من فصول البكاء على اللبن المسكوب. نكبر، ونكبر، ولا يكبر فينا غير هذا الوحش الكاسر، الذي نسميه جزافاً (العقل).
نكبر ولا يكبر فينا غير الغلاف الجوي المحيط بتضاريسنا الذهنية، فيملؤنا بالغبار، ولا يمنحنا غير القنوط. نكبر، ونحن بحاجة إلى طفولتنا، كحاجتنا إلى الماء والهواء، كحاجة الأشجار إلى هديل الحمام، كحاجة
الورد إلى العطر، كحاجة الفراشات إلى الشفافية.