بعض الناس ما إن تذكر لهم الماضي يجفلون، ويصيبهم الفزع لذكر أيام خلت وتولت وأدبرت، لكنها لم تزل تختزن في ذاكرة المخلصين لما مر وعبر، وترك بصمته في القلب مثلما يفعل الكي في الجسد. الماضي الأساس الذي بني على عاتقه الجدار السميك، والذي من خلاله نرى بلادنا وهي ترفل بحلي الحياة الزاهية، وتنعم بزخرف التطور الذي جعلها واحدة من أجمل بلاد العالم. نحن بحاجة إلى استدعاء الماضي، وإلى الوقوف أمام مرآته لنرى أنفسنا كي لا نهرب من الحياة، ونذهب بعيداً في غابة النكران، ونعيش بلا ذاكرة ولا تاريخ. فالتاريخ هو سجل الأوفياء، وهو مخبأ الثوب الذي يجمع حصيلة تطلعات وطموحات كانت هي الضوء الذي أنار طريق الأجداد، ليحددوا مكان تفوقهم على الظروف العصيبة، والخروج من نفق العازة إلى باحة النعيم الذي نحن فيه الآن، فلا يمكن لأمة أن تخرج إلى الوجود هكذا فجأة من دون مقدمات تؤدي إلى كتابة التاريخ بحروف من حرير، وكلمات من رحيق النحلة التي كانت تبني خليتها عند قمة أشجار السمر، وبين أغصان أشجار الغاف. نحن بحاجة إلى الماضي لأنه الموجة التي تغسل سواحل تهورنا من الشطط واللغط والغلط، نحن بحاجة إلى الماضي لأنه السحابة التي تبلل تربتنا وتمنع عنها التصدع والتشقق، وتنبت بين تلافيفها أعشاب الحب، وتلاقي الأكتاف من أجل الذهاب إلى المستقبل بأضلاع لا تنحني لريح، ولا تنثني لعواقب. نحن بحاجة إلى الماضي، لأن الماضي فيه رائحة عرق الأب والأم، وكل من عجنوا طحين الحياة، وأشعلوا تنانير الفجر، لأجل أن يستمر النور وضَّاءً في شرايين الذين سيأتون من بعدهم، ولذلك عندما نجد شخصاً يتأفف لمجرد ذكر ذلك العريش الذي ضم أشجان الناس الطيبين، نشعر بالأسى ويعترينا الشعور بالاشمئزاز، وينتابنا الجزع من نفوس ضيقة، وضاقت بها الدنيا، وأصبحت مثل أزقة تراكم فيها الغبار وسعار الدواب المتوحشة، عندما نجد شخصاً يتقزز من سيرة البحر وأطفال الماضي عندما كان لا وسيلة لهم غير الماء المالح لتغيير المزاج اليومي، نكن لهذا الشخص الاحتقار لأنه كائن منسلخ من وجوده، ولا ولاء له إلا للعبثية، والعيش في اللحظة، وترك التاريخ تسوطه رياح الاستنكاف والتبختر في أسواق الرغبة الهاربة من مخدع الكينونة. نشعر بالأذى من أشخاص، الماضي بالنسبة لهم ثوب قديم يجب عدم ارتدائه، لأنه يحمل بقعاً سوداء، ويعبر عن تاريخ الأفراد، وليس المجتمع. هذه هي معضلة من ليس له علاقة بالحياة غير البحث عن شجرة بلا جذور.