بعض البشر مسخرون لدور كبير أو صغير، مهم أو يعدّ جزءا من التفاصيل، لكن لا أحد يمكن أن يملأ ذاك الفراغ في حينه إلا هم، محمد ديب شحرور كان يمكن أن يرتضي بتلك الشهادة الأولى من موسكو في الهندسة المدنية، معيداً نهاراً في جامعة دمشق، ومساء ينجز أعمال مكتبه الهندسي، ويظل يعيل أولاده الأربعة وأختهم، كان يمكنه بعد نيل الماجستير والدكتوراه في تخصص هندسي في ميكانيك التربة والأساسات من جامعة دبلن بإيرلندا، أن يعود إلى دمشق، ويظل منشغلاً في الأعمال الهندسية، وأشغال الدراسات الجامعية، ومواطناً صالحاً، وعائلاً مستريحاً، وموظفاً محترماً كما يليق بأي موظف عربي عالق بالوظيفة لكي لا يظهر له المستقبل وجهه البشع بدونها، غير أنها تلك الأسئلة الكثيرة والغائرة في قاع الذاكرة، ولا تريد أحداً أن ينبشها لكي تستيقظ من سباتها، محمد شحرور ترك كل تلك الأشياء وحافظ عليها أو على بعضها بمقدار، وغامر باتجاه الأسئلة بعيداً في التاريخ، وعميقاً في الإسلام، وغامر باتجاه تحريك الساكن والثابت، والمسكوت عنه، رافضاً الانصياع لقدسية شروح النص، وما تواتر من عنعنة، وما لحق بالنص من جرح وتعديل، اعتمد على تراكيب هندسية ولغوية في تفكيك النص، واكتشاف مكنونات سحر تربة الحروف وأساساتها، وما يفتح الله عليه من وهجها، ونور قدسيتها، محمد شحرور في مشروعه الثقافي كان يدرك أن الآخر المتعصب والتقليدي المحافظ لن يقولا: رضي الله عنه، بل سيرجمانه على قدر اجتهاداته بأحجار صغيرة وكبيرة، وسينبري له أصحاب صكوك الجنة ومفاتيح الغفران، وسيلقونه في نار جهنم خالداً مخلداً، أما حرّاس المِلّة، فسيبعدونه عنها ومنها، وسيرمونه بشرر، لكن لأنه منذور لفعل مغاير للخير، وفاتح جديد لأبواب موصدة على أسرار الإسلام وسماحته وجماليات نصه المقدس، ومجدد للخطاب الديني السائد والمتهالك والمتاجر به، والمركوب ركوب الدابة، فرح لما هو مقبل عليه، وغامر باتجاهه.
تعرفت على محمد شحرور من خلال إصداراته الأولى التي اعتكف من أجلها عشرين عاماً قبل صدورها في التسعينيات، وكان ضمن نقاشات مع أصدقاء كانت تضج بهم دمشق أيامها، وتشرفت بأن وضعته غلافاً لمجلة «الرجل اليوم» التي كنت أرأس تحريرها عام 2004 في شهر يوليو، بعنوان لافت صادع: «لا أقبل أن أجلس عند أقدام ابن عباس والشافعي»، وقد قال يومها للزميل «عساف عبّود»: هل متأكد أن مجلتكم قادرة على نشر ما أقول؟ فرد عليه: بل ونضعك كمفكر ومجدد غلافاً لها!
آخر مرة رأيته في معرض أبوظبي للكتاب، وبالأمس توفي في أبوظبي عن عمر يناهز الواحد والثمانين، قضاه من أجل الفكر الحر، وحرية التفكير، فلتهنأ أيها الشحرور الذي غناؤك كالبكاء في مدينتك دمشق التي تحب، والتي شهدت ولادتك، وشهدت رقودك الأخير بسلام وسكون، أنت الذي مجدت الإنسان وسلامه وإسلامه، وحرّكت الساكن والثابت وأسئلة الكون والوجود.