خدعوهم وقالوا لهم هذه حرية ؟! الفضاء الواسع الذي رمحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي، ورفست، جعل أصحابها يتوهمون أن الحرية هي أن تتجاوز حرية الآخرين وأن تسيء أدب الخطاب، وأن تصبح حطاباً فاشلاً يطيح بأشجار الغابة من دون وازع ولا معرفة بأن قطع الأشجار الخضراء عمل من أعمال الشيطان.
هكذا غدت الركاب الحمقاء، تهرول باتجاه البئر معصوبة العيون، فتعثرت في الحفر السوداء، وتبعثرت، وتناثرت شظايا خارقة، أتلفت الثوابت، وتجاوزت الضوابط، وهدمت الجدران، ووقفت في عراء القيم تهدر، وتغدر، وتكسر، وتهجر منازل الوعي، مخدوعة بأضغاث الأحلام، مفتونة بالألوان الفاقعة، مجنونة بأحلام اليقظة. وهذا ما جعل الحرية المدعاة، مجرد فقاعة تلاحقها موجة هائجة، وهذا ما جعل الساحة مثل فلول قطعان تلاحق سراب صحارٍ قاحلة، وهذا ما جعل وسائل التواصل الاجتماعي مثل حشرة مذعورة يلاحقها وهم الخوف من الضمور، والتلاشي في زمن لا يقبل إلا النجوم، وسار هؤلاء خلف الأضواء الخيالية وغاصوا في الخضم الرمادي إلى درجة الهذيان، وتاهوا في بيداء حب البروز، على حساب قضايا الوطن، وسمعته، ونبل أهله، وتاريخه الناصع. سار هؤلاء يهتفون باسم الأنا المتضخمة، والذات المتورمة، والمشاعر الملونة بغبار مراحل ما بعد الفراغ.
سار هؤلاء مزملين بادعاءات، وافتراءات، وهراءات، شوهت، وسفت، وسفسفت، وتاهت، وتوارت خلف كتلة داكنة من ضباب اللاوعي، سار هؤلاء مجندلين بأغلال حب الشهرة، والصعود إلى مراتب النجومية، والتحذلق، وتسلق الأضواء مثل كائنات خيالية تائهة، سار هؤلاء وفي أنظارهم تلمع أرقام المتابعين، معتقدين أن المتابعة تعني الأهمية، ونسوا أن أي مهرج، وأي مشعوذ يمكن أن يتابعه الناس ليس للأهمية، وإنما فقط للفرجة، والتعبير عن المزاج في لحظة، فراغ، أو لحظة تتبع التفاهات، لحرق الوقت الضائع.
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي حققت رصيداً وافراً من الانتشار، ولكن كل شيء عندما يفيض عن الأناء فإنه ينتشر، ويسبح على الأرض، حتى الصديد، حتى الزبد، حتى مياه المجاري المتسربة من الأنابيب الصدئة.
كل شيء قد يصبح واقعاً، ولكن ليس كل الواقع يرمز إلى حقيقة الصواب.
ليس كل الواقع هو من صلب القيم السامية، ليس كل الواقع هو من صميم أحلام الناس النجباء.