أتخيل لو نسي العالم خلافاته، وتلاقت القلوب مثل قبلات الأنهار عند مصبات النضج. أتخيل لو تخلَّت الجغرافيا عند تصادم الجبال بالرياح، وتحوَّلت السفوح إلى نجود ترتع عند عشبها غزلان الألفة والعفوية، أتخيل لو تذكّر العالم كيف اختفت حضارات وزالت أمم بفعل العجرفة والعنجهية، والكبرياء المزيّف. أتخيل لو صحا العالم بعد غفوة وتذكّر الجبابرة، كيف سقط هتلر، وكيف انتهى مصير نابليون، وكيف قضت ماري كوري على إنجازها في الكيمياء والفيزياء، بفعل التهور وتدهور القيم، وكيف رمى الخمير الحمر عود الثقاب في موقد كمبوديا بعدما ساورهم الظن أن الأيديولوجيا هي أن تكون عدوانياً.
أتخيل لو يحلم العالم بما جاء به غاندي، وواجه الحقد بالحب، وقاوم من دون أن يحمل سكيناً في جيبه. أتخيل لو تضيع من ذاكرة العالم كل الأنوات، وتبرز فقط كلمة نحن، أتخيل لو تغادر رؤوس العالم فكرة الكراهية، وتحضر مشاعر أنقى من ماء الجدول، وأصفى من عيون الطير، وأجمل من شفة النجمة، وأنبل من شيمة الغافة. أتخيل لو يعتني العالم بالسلام، ويتخلص من بؤر الظلام، وترتفع راية الوئام. أتخيل رغم كل هذا الغثاء والغثيان، رغم البغي والطغيان، لأنه ما من قوة يمكن أن تلغي من رؤوسنا فكرة الحلم، أن تشطب كلمة خيال. لا يستحيل علينا أن نتخيل وأن نحلم، لأن في الخيال النقي تكمن بذرة الحياة، ولأن تحت جفن الحلم تسكن بهجة العالم. فقط علينا أن نتخيل، ونطلق لأجنحة الخيال المعنى والمغزى، وأن نعري كل فكرة جاهمة من أكاذيبها، وأن ننزع عن العقول الماكرة، مهارة توليد الأكاذيب. ليس من المستحيل أن نحلق رغم الكثافة الدخانية التي تنفثها بواخر العدمية، ورغم الضباب واليباب، إلا أن الأرض الإنسانية لم تزل خصبة وثرية ببذور العطاء، وأشجار السخاء. ليس من المستحيل أن نغني باسم الحب، ونطلق عصافيره، كي تمسك بتلابيب الفضاء الرحب، وتنشد لأجل وجود خالد، لا تعكره فوهات البراكين من هنا أو هناك. ليس من المستحيل أن يغادر الليل مكانه، ليسكب النهار إشراقة الفرح، وتبتسم شفاه من أتعبتهم نيران الغضب. ليس من المستحيل أن يهدأ الضجيج، ويعم العالم نعيم جنات الأبدية. ليس من المستحيل أن تغمض الوحوش عيونها لتمر الزرافات بلا غضون ولا شجون ولا غبن، فهذا هو عقلنا، لديه من سعة الوعي ما يجعل الأرض القاحلة واحة غنّاء، ومن البحار أنهاراً، ومن الظلام شموساً وضّاءة.