نقرأ وجوههم، فنرى في صفحاتها تاريخاً لم يهمله التاريخ. ونقرأ وجوههم، فنشهد ملامح التاريخ تتمشى الهوينا، كأنها خطوات أطفال في سن الحبو. نقرأ وجوههم فنشعر أن ابتسامة غائرة، تطل من خلال تجاعيد، أصبحت كشوارع في قرية قديمة.
نقرأ وجوههم فتصدمنا تلك العيون مثل نجوم خلف غيمة داكنة، نقرأ وجوههم، فنرى حلماً يتهجى حروف أزمنة غابرة، كانت في حينها مثل موجات رملية، تراكمت على رصيف مهشم. نقرأ وجوههم وعلى شفاههم تلاطمت كلمات ربما لم تصل إلى أسماعنا لكنها كانت أفصح من هديل الحمام على أغصان الشجر، كانت أحصف من لغة السعفات وقت الأصيل.
نقرأ وجوههم ونفهم من عبراتها عبارة تدل على ضياع العمر، نقرأ وجوههم فتأخذنا إلى عوالم غامضة، ومساحات أوسع من المحيط، وأعمق من بئر قديمة في أحشاء الصحراء.
نقرأ وجوههم ونحن مثل أطفال في مرحلة التأتأة، نقرأ وجوههم فنمتلئ بحرقة الصيف، ورطوبة البحر، وصمت الأشجار، ساعة الهزيع. نقرأ وجوههم، فنستعيد طفولة هاربة وريعاناً يتخبط عند أرصفة عمر فرت طيوره، وأصبحت الأعشاش كهوفاً تصفق للنسيان.
نقرأ وجوههم، فننسكب مثل قهوة باردة، وننثال مثل عرق المتعبين. نقرأ وجوههم فيأتينا صوت من بعيد يشرخ صمتنا، ويحتوينا، ونصبح نحن مثل زجاجة مكسورة، نصبح نحن مثل زجاجة فارغة. نقرأ وجوههم فنصبح مثل حطابين في غابة من أشجار بلاستيكية. نقرأ وجوههم فنمشي مثل سلاحف تتخبط نحو الماء فتخطفها مخالب من لظى الحنق. نقرأ وجوههم فنرى التاريخ يشعل سيجارة الأمنيات ويلقي برمادها في مطفأة الأحلام الباهتة. نقرأ وجوههم فنرى العرق يتصبب من جبين الأفكار الهاربة من الواقع.
نقرأ وجوههم فنرى عتاباً مراً يختزل سنوات مرت، مثل موجة عارمة، سرقت أفراح السواحل. نقرأ وجوههم فنرى النظرات، مثل إطلالة الشمس ساعة الغروب، نقرأ وجوههم فنرى الصمت مثل جبال سرقت الطمأنينة من أفئدة الكائنات، نقرأ وجوههم فنرى الأحلام تتسرب من تحت جفونهم، مثل الماء في شرايين الأرض اليباب.
نقرأ وجوههم فنرى أنفسنا أطفالاً في عيونهم، نرى أنفسنا أغنيات لم تكتمل في الناي الحزين. نقرأ وجوههم، ونسمع شهقة الميلاد تكابد تعبها، وهي تتزحلق من وهج النهار القائظ، نقرأ وجوههم ونتهجى لغة غريبة بين شفاههم تكاد تكون أشبه بحبات القمح، عند قمم جبال رأس الخيمة. نقرأ وجوههم، ونحن لا زلنا في مرحلة القراءة، والكتابة الأولى.