لكل روح طيفها في الحياة، ولها إشراقتها، ولها ذوقها وعبقها الدال على منتهاها، فكيف يقطف الإنسان ذروة عطائه، وثمرة جهده المتمم لكيانه وشخصه، وإحساسه المفعم بالإبداع، فالفعل الإنساني الحق لا يندثر على مر الزمن، أو ينقرض، أو يخلو من النجاح بسبب مصاعب الحياة.
ولا ينحصر الإبداع في الحياة بعمل ما، فالوجود نفسه له قيمة ومتعة، وقيم إنسانية تظهر في روح المبدع، حين يتجلى العمل ويزهر، ويصبح ذا مدى، حتما لا يتجاوزه الزمن، ويبقى راسخا، ولكن مؤلم جدا حين يفنى أصحابه وهم على قيد الحياة، فلا ينظر إلى إبداعاتهم ولا يقدروا حق التقدير، وكأنهم باتوا في طي النسيان، ومحاصرين بين رتم الماضي. قد أبعدتهم الحياة عن ظاهرها، ورغم مثابرتهم فلا نرى شيئاً من أعمالهم الدالة على قيمتهم المهمة، ولم يعد يعرفهم أحد، إلا من خلال ما يسمع عنهم أو يقال، بين فترة وأخرى، فمن أخفى إبداعاتهم؟.
لكن حين نجالسهم نستشف منهم الماضي الجميل، والحكمة، والقيمة الفكرية العميقة، إنها عصارة السنين والجهد، ربما ممن التقيتهم على مر الأيام الماضية، قد حددت معالهم سنوات من الإبداعات، وفي أرواحهم تكمن ملامح القراءة الدفينة، وفي نفوسهم بدأ الهدوء، إنهم العزف الموسيقي الذي يطرب السامع كلما تحدثوا، إنهم معالم حقيقية من الكتب تتحدث في حضرتهم، ومالك إلا أن تصغي لهم بكل ما أتتك نفسك من استماع.
هؤلاء أصحاب إبداعات حقيقية، لا ينتابهم زيف ولا تمل من مجالستهم، ربما كانوا أشقياء في أرواحهم، وفي أوج عطائهم في الكتابة، وفي الحضور الثقافي، لكن ما كان ذلك سوى إبداع خالص وإيقاع ينقر الجمود، فرط حراك جامح، يفكك وتيرة الخمول ليمتع، لكن هذه حصيلة السنوات، تجرهم نحو الهدوء، قريبا من قلب زاوية التأمل. هنا العطاء الذي لا يتكرر، وكذلك منجزهم الثقافي والأدبي الذي لا نظير له.
ربما البحر وحده من يلامس صفحات من الفكر والإبداعات، ويلامس عالمهم المضيء، تحسبهم في صمت لكنهم في عمل دؤوب من القراءة والنقد للأعمال الماثلة من منجزات الشباب الأدبية ويتحدثون عنها بإنصاف وبكل شفافية وحين تتداخل معهم يتحدثون برقي المثقف الناضج الذي تحمله روحه نحو آفاق الحلم، هؤلاء هم من ينبغي أن يكرموا على منجزاتهم التاريخية والإبداعية، وأن تحمل لافتات بأسمائهم على واجهة مركز ثقافي أو صالون أدبي.