هو هكذا وجد في الحياة، محب، مسهب في كتابة يومياته على خطوط الطول والعرض، والأرض كتابه، والسماء مصباحه، وخيوط الشمس حبره، وشعاع القمر ذاكرته التي تمتطي خيل الأيام والأحلام.
هكذا هو هذا النهر، والبحر، وسهر النجمة على نعيم الوشوشة، تجري في غضون الموجة، وترسم صورة مثلى لوجه الحياة. هكذا هو منذ يفوع الطفولة الباكرة، كان يدخل خيمة العزلة، ويغني من أجل الحياة، مستدعياً صورة الحبيبة، ومخبئاً قلبه في معطف الحرقات، ويغني.. ويغني، ولا يكف عن السرد، ولا يخف عن جرد حسابات النهار في الليلة الباردة، ثم يمضي في ترتيل لواعجه، في أناة وتؤدة، وهو يفرد للهوى جناحي مودة، وهو يعلن للعالم أن في الحب عبقرية التفاني والإيثار، وأن في الحب نبتة تترعرع تحت تربة يخصبها خيال الطفولة، ويرويها قلب، وريده جدول عطاء، وجديلة إغواء، إنه هكذا نشأت له أجنحة، وهو في المهد، فطار وحلق ورفرف، وأسرف التحديق في عينين لهما سر الجلال، وأسطورة الدهشة الأخاذة.
هكذا هو استثنائي في تعاطي الهوى، والنوى له أسرار، هكذا هو مدهش إلى حد المباغتة، مبهر إلى حد المداهمة، جزيل إلى حد الصدمة. منذ نعومة أظافره، وهو يضع الأمل كحلاً عند أطراف الخطوات المتئدة، ويمضي.. ثم يمضي، ولا تتوقف العربة، حيث الطريق إلى الأحلام سالك، ما دام الحلم يرشف من كأس لم تثلمها رعشة، ولم تخدشها رجفة، إنه في الحلم وهج يضيء مسافات الطريق، ويسرج خيل الطموحات، ويغدق الأيام فيضاً من عذوبة، ويمضي، ولا هوادة في المسير، طالما القلب أصبح واحة للطير، يملأ الأسماع نغماً، وينعم على الأنام بتغاريد مبللة برضاب، مكللة بخضاب، مجللة بانسكاب، مدللة بانسياب. هكذا هو راعي الكون، إنسان من رعيل لم تزده الصحراء إلا رحابة، ولم تمنحه الغافة إلا شهامة الأوفياء، ولم تعطه النخلة إلا صخب عطاء لا ينضب ولا ينكب، هو هكذا من رعيل نشأ على ولوج بهيم الليل بقصيدة عصماء، أبياتها من رفيف الأوراق، وبحرها من رهيف الأشجان، ووزنها من حفيف الأغصان.
هو هكذا من جيل رتب أوراق الحلم، بأنامل لم تزل، ولم تخل ولم تكل، ولم تنحل، إنه هكذا من فئة النهار، الذي لا يطفئ أنواره، ولا يخبئ رمضاءه، إنه في النهار شمس، وفي الليل قمر، وفي الحياة زمن مزدهر، وتاريخ يكتب قصصه بقلم من زمرد وجوهر.