في الصيف مكاتب بأكملها خاوية على عروشها، ولا تجد غير النُدُل يهزون أعناقهم السمراء، ثم يقفلون أبواب الحديث، وتبقى الأسئلة حائرة مثل فراشات تبحث عن مخبأ لها، هرباً من المجهول. مصالح بشر، ومعاملات تذهب مع الريح، مثل قصاصات ورقية لعبت بها الريح، وتبقى أنت السائل عابر سبيل بين الممرات التي تفصل مكاتب المسؤولين، وعينك على الأبواب المفتوحة يؤمها الصمت المريع، وأنت تجيب عن أسئلتك بأن لا حل غير العودة بخفي حنين، مكظوظ بالهم والغم، مرضوض باليأس، وعندما تعود إلى بيتك خاوي اليدين، تجيب عن السؤال الجوهري، بأن في الصيف لا أحد يعمل، ومن لم يحالفه الحظ في نيل الإجازة لسبب من الأسباب، فهو عابس يائس، ينظر إلى المراجعين، ومن في نفسهم حاجة، كمن يرى عدواً مداهماً يريد أن يقتص منه، وتخشى أن تسأله في أمر ما حتى لا يزجرك وينهرك، وقد يتلفظ بكلمات تزيد همك هماً، وتصبح أنت المخطئ لأنك جئت في الوقت غير المناسب، لأنك دخلت على شخص ربما أشعل معركة بيتية مع الزوجة، التي لم يلب لها مطلبها في الذهاب إلى بلدان الاستجمام التي تذهب لها الجارات، ويعدن من السفر منشرحات الخاطر، ويسردن الأحاديث التي تغيظ هذه الجارة التي لم تستطع التبضع من المحال الشهيرة في لندن وباريس وجنيف، وغيرها من بلدان الهواء البارد والماء السلسبيل، إذاً أنت أخطأت التوقيت، فالمسكين مشغول بنفسه وما يلقاه من عبوس الزوجة وقنوطها، فإذا لم يحقق هذا الكائن الراحة لنفسه فكيف يحققها لغيره، وفاقد الشيء لا يعطيه.. فمن تلم أنت الآن؟ هل تلوم نفسك أم غيرك، أم تلوم الثقافة العامة التي أنتجت مثل هذه الظواهر الشاذة والمؤلمة والمعطلة لمصالح البشر، والمؤدية إلى مثل هذا التجمد في حركة العمل، والذاهبة بمستقبل من يتحد مصيره بدوام هذا المسؤول أو ذاك، ولو وجهت سؤالك، لماذا كل هذه الفراغات الموحشة في مكاتب المسؤولين، فسوف يقال لك الإجازة من حق كل موظف، وهي الدافع لمزيد من النشاط في العمل، وهذا جواب في ظاهره صواب، وفي باطنه خطأ فادح، لأن المشكلة لا تكمن في إجازة الموظف بقدر ما هي في النظام العام، والطريقة التي تتم فيها توزيع الإجازات، والمسألة بسيطة ولا تحتاج إلى عبقرية في ملء الفراغات، فالموظف يجب أن يستعاض به بموظف بديل يستطيع أن يتخذ القرارات في حل مشاكل الناس، وتحقيق الرؤية التي تتجه إليها البلد، أما أن يصبح ما في المكان غير هذا الهمام، فهذا ما يعطل ويعرقل، ويصيب حركة العمل في المؤسسات بروماتيزم المفاصل، ويجعلها تحبو على قدمين معطوبتين.