«لا أتحدث عن الموهبة، ولا عن الملكات الفطرية. يمكن للمرء أن يُسمّي رجالاً عظماء كانوا قليلي الموهبة. ولكنهم اكتسبوا العظمة، وصاروا عباقرة بفضل بعض الصفات والخصائص التي لا يرغب أحد في الحديث عن نقصها، حين يكون واعياً بذلك النقص. لقد ملكوا مثابرة العامل الفاعل الذي تعلّم أولاً تركيب الأجزاء الصغيرة بصورتها الصحيحة قبل أن يُكوَّن الكل الكبير. لقد أعطوا أنفسهم وقتاً كافياً لتعلم ذلك؛ لأنهم كانوا أكثر استمتاعًا بعمل الأشياء الصغيرة، وإتقان الأمور الثانوية من التأثير المبهر للكل». «فريدريك نيتشه».
يستخدم المؤلف «روبرت غرين» في مقدمة كتابه «الإتقان» هذا المقطع من أقوال الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» وذلك في إشارته لأهمية الإتقان كفعل جوهري مؤثر في جودة الإنتاج الإنساني. يخبرنا نيتشه أن (.. الخصائص التي لا يرغب أحد في الحديث عن نقصها، حين يكون واعياً بذلك النقص)! وفي هذا الأمر متغيران في غاية التضاد، أولهما؛ وعي كامل بنقص ملكة مهمة ذات تأثير كبير في المنتج، وثانيهما؛ رغبة متعمدة في تجاهلها!
الإتقان هو ضبط القواعد الكلية بجزيئاتها. بمعنى أنه ولضبط أي منتج - مهما كان نوعه- هناك جزئيات صغيرة يجب أن تكون مُحكمة الصنع. وهنا تأتي أولوية الجزئيات والتفاصيل والهوامش سابقة لأولوية المنتج النهائي، من حيث التراتبية. فصانع البناية على سبيل المثال، لا يشغل باله بشكلها النهائي على حساب جودة مواد البناء ودقة التركيب ومثالية التفاصيل؛ بل إنه حتى قد يتغاضى عن الشكل النهائي المتصور سابقاً، في حالة تعارضه مع ضبط الجزئيات. ولأن الأمر على هذه الدرجة من الأهمية، فكثير من الناس لايرغبون - رغم وعيهم الكامل - بالتوقف عند هذا الأمر لما يحتاجه من وقت وتركيز، وربما تنازل عن تصور سابق -متخيل- عام حول الشكل النهائي.
ينطبق هذا الأمر في الحياة المهنية بشكل كبير على الكثير من المخرجات التي نشهدها يومياً، والتي تؤثر على المنتج النهائي للمؤسسة أياً كان نوعها. في كتاب «الإتقان» يجتهد الكاتب في إقناع قارئه أنها المهارة التي حولت العاديين إلى عظماء، ولكنهم عاديون امتلكوا درجات عالية من الانضباط والإصرار -باستمتاع- على الاستمرار حتى تحقق لهم المبتغى، الذي أصبح مع الوقت لا يحتاج وقتاً كبيراً لإنجازه فأصبحوا عظماء.