كل امرئ يحمل أشواقه في معطف القلب ويمضي. كل امرئ يتسرب في الوجود مثل نملة تتخبط باتجاه حبة قمح، تزن أضعاف حجمها.
كل امرئ، يذهب إلى الحياة وفي حناياه أشواق ما قبل، وما بعد الميلاد، يلمس بعضها، وتتخفى بعضها تحت لحاف سميك من الذاكرة المخضوضة بمعامل الزمن. هكذا نحن لنا أشواقنا، ولنا أحداقنا، نتعلق بمشجبها، مثل قمصان الليل المبللة بالذكريات، وأحلام ما قبل النوم.
كل منا يغرق بالأشواق، مثل طيور النورس الغارفة من فيض رغباتها، وصبواتها، وصولاتها، وجولاتها وحوباتها، وحربها، وسلمها.
كل منا له أشواقه، بعضها بمخالب، وبعضها بلا مخالب، نذهب إلى الصحراء، وأحياناً الواحة، نبحث عن ركاب مروا من هنا، وخيول طافت الأرجاء نبحث عن أجنحة الفراشات التي هفهفت، على أكمام الزهور، ونبحث عن عيون الماء في أحداق من اشتاق إلى لواحظهن قلب معنى، سامه الشوق، سوء عذاب.
كل منا يمضي خلف أسئلة الليل، ويفشي للنهار، ما حدث ساعة انثيال أغرق الوادي، وساح في السفوح. كل منا يعكف على كتابه الذي بيمينه، والذي بيساره، ويقرأ ما تلاه الليل على النهار، وما شابه من سهر، وحذر، وكدر، وخدر.
كل منا تبدو أشواقه مثل سدرة في فناء القلب، تورق يوماً، وفي يوم تتجرد من أوراقها، وتذبل أثمارها، وتنحني أغصانها. كل منا يقف على قارعة الزمان، مثل غزالة برية، تاه بها الوصال، ولمعت في عينيها النصال، وصارت ما بين النهر، والأوحال، قشة تذروها الريح، وتقبض على مهجتها صورة مخلب يتربص، ويتلصص ويتفحص، بريق عينين منطفئتين.
كل منا في أطياف الأشواق، سعفة بين ذراعي عاصفة تخطف المهج، وتسرب في الوعي قتامة صبح، وجهامة ليل، وهكذا تمضي قافلة الذاكرة محملة بغبار، وسعار، وهكذا تسير ركابنا بين مضض، ورضض، وكلما أشرقت شمس، مدت أهدابها إلى ذاك الذي كان، فإذا به يبدو مثل سجادة الصوف، لم تزل شعيراتها تحتفظ ببقايا أقدام مرت من هنا، وأقدام داست على أثر، واختفت.
كل منا يخفي أسواقاً ويظهر أشواقاً، ونظل في الحياة، حزمة من هلع، وولع، وجشع، وفزع، ونزع، نظل في الحياة نحمل أدراننا، مثل الطفح الجلدي، مثل بقايا الجدري، مثل فلقة فأس في الرأس.
كل منا تطربه الأشواق، كما تشده أغنية قديمة، إلى مكان ما، أو حدث ما، أو شخص ما. كل منا رغم تعافيه من هنات الزمن، وأناته، فهو لم يزل في مخبأ الأشواق، فكرة في رأس كاهن متعبد.