يقف هذا الفتى عند ناصية ملأى بالصور والمشاهد، وينظر إلى المارة من حوله، فيرى الصورة مثل وجه في مرآة قاتمة، ولكنها تخبئ في تلافيف زجاجها الكالح بعض حنايا مهشمة، وبعض تاريخ مكسور، وبعض وجوه شائهة، وبعض أحداث مرَّت من هنا مثل عواصف أطاحت بما يعرشون.
عندما يتذكر ما خفي، يجده أعظم من موجة محيط تقضم من جسد السواحل، وتردم حفر القواقع التي سارت على الرملة، كأنها تبحث عن مصير ضائع.
يتأمَّل الفتى المشهد، وكأنه يمر بناظريه على لوحة تشكيلية غامضة، لفنان مجهول ثم يصغي لصوت داخلي، يأتيه من مكان بعيد، يقول له الصوت، هاتها، فهذه الأذن كانت مرتعاً لحفل جنائزي مهيب، واليوم هي مجرد ثقب ضيق، محاط بأسطوانة رقيقة، هاتها كي تستعيد عافيتها، وتعيد قراءة ما قاله ذلك الرجل الكهل لك ذات مساء، وكنت أنت في أتم صفائك.
اسمع هذه الكلمات، وضعها حلقة في أذنك، فإذا كنت تريد أن تمشي على الأرض، فيجب أن تضرب قدميك على الأديم بقوة، كي تسمع من به صمم، فالعالم لا يستمع إلا إلى ضربات الأخف الثقيلة. لم تع أنت معنى هذه العبارة، فقد كنت أصغر من أن تستوعب ما يقال لك.
اليوم، وقد اتسعت حدقتا وعيك، أصبحت في كامل قواك الذهنية، اليوم صرت تستفسر عن معنى الأخفاف الثقيلة، وفهمت من تلك العبارة أنك إذا أردت أن تصل كلماتك إلى الآخرين، فعليك أن تكون قوياً، فالعالم لا يستمع إلا إلى الأقوياء، العالم لا يلتفت إلى الضعفاء، لأن صوتهم لا يتجاوز حدود أفواههم.
ضحك الفتى، وحك صدغه، ثم نظر إلى الأفق، ورأى ما يشبه اللهب، يخرج من فم كائن عملاق، وظل يتأمل الصورة، فالتفت إلى العالم من حوله الذين يسعون، سعي النمل من أجل حاجة في نفس يعقوب، وقال في سره، شكراً لك أيها «الأب» العظيم، لقد كانت لك مقلة مثل مصباح منير، تخترق البقعة القاتمة، وتحرق الحشائش اليابسة، وتمضي في تفكيك العقد في خيط الصيد، اليوم عرفت أنك كنت عظيماً، وكنت أنا أضعف من جناح بعوضة، ولا زلت أحمل هذا الجناح، ولذلك عندما أصرخ، لا أجد الآذان التي تسمع ولا العقول التي تذعن، فقط أنا وحدي الذي أصرخ في الخواء، ولا يرتد صدى الصوت ولا يعتد أحد بما أتفوه به.
ابتسم عن غصة تحكمت في مهجته، ثم أدار وجهه، باحثاً عن ذلك الأب، ولكن قد فات الأوان، ولم يبق في طرف الناصية، غير صرخة، يتيمة، مغللة بنكوص، إلى فراغ مراحل أصبحت مثل دائرة قطبية، شديدة البرودة.