عندما تشاهد رجلاً أو امرأة يسحبان خلفهما طفلاً صغيراً، وكأنما يجران خروفاً إلى المقصلة، فتبين أن هذا الطفل سوف يحمل في طيات القلب كتلة من جحيم الغضب، وسوف تكبر الكتلة، وتصبح منطقة ملتهبة بنيران الكراهية، وكذلك عندما تجد شخصاً ما يمسك بقبضة يده راحة طفل أصغر من ورقة التوت، ويدفعه إلى الأمام كي لا يتعثر الطفل بلعبة تشد نظره، أو زجاجة بيبسي مثلاً أو قطعة حلوى، وكلما توقف الطفل ونظر إلى مرافقه الكبير، كلما اصطدم بنفرة ترعد جوانحه، وترعب فؤاده.
عندما تصطدم أنت بمثل هذه المشاهد، تداهمك فكرة ترتعد لها فرائصك، وتتوقف أنت عن الكلام، لأنَّ ما يحدث أمامك، ترتاب منه حتى أقسى الحيوانات، ننظر إلى أنثى الأسد، هذا الكائن المرعب المخيف، والذي ترتجف منه الأشجار، والأطيار، وسائر من يدب على الأرض، ومن يطير في الفضاء، ولكن هذه الأنثى تبدو أرق من أوراق اللوز على شبلها، فإنها تحنو عليه، وتلحس رأسه، بلسان عفوي، شفيف، خفيف، لأنها تعي معنى الحنان، وتفهم أن إذلال النفس من أجل صغير لا يصبو إلى غير الحنان، لهو أشبه بما تفعله السحابة عندما تهطل بقطراتها على التراب، فينبت الزرع، وتتفرع الأغصان.
هذه الشيمة الأخلاقية قد لا تبدو ذات قيمة عند بعض الناس، بل إنهم مكتنزون بالغضب، لمجرد أنهم آباء، أو أمهات، ويرون من واجبهم أن يكونوا في حالة انصهار دائم، وأن اللين مفسدة للصغار.
هذه هي معضلة الوجود التي يواجهها صغارنا، في حضرة كبار نسوا دورهم، وتخلوا عن مسؤولياتهم، واتجهوا إلى التزامات، أقرب إلى الخرافة، منها إلى الواقع.
فإن تكون أباً، أو أماً، فلا يعني ذلك أن تمسك بسلاسل السجان، وتبني علاقتك بهذا المخلوق الضعيف على أساس مبدأ القوة. الحنان في العلاقة بين الوالد والولد، هو نقطة الانطلاق إلى المحيط، وهو الشراع الذي يعبر بالسفينة إلى محطات الفرح، وهو المجداف الذي يمر بالطفل عبر المضايق من دون عقبات.
الحنان العشبة السرية التي تقضي على الأمراض النفسية، وهو زجاجة العطر التي تعبق ثياب الطفولة، وتمنحها الرائحة الزكية وتجعلها مقبولة بين الناس. الحنان، هو الوضوء الذي يطهر الطفولة من دنس المشاعر المتشابكة.
الحنان لغة لا يفهمها إلا من عرف كيف تكتب حروف العلاقة بين الكبير والصغير. الحنان هو القطرة السرية التي تحيي العظام الرميم، ومن يفقدها يصبح في قبر الاحتباس الحراري، فلا هو ميت، ولا هو حي.