الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

خطاب الروح

خطاب الروح
25 نوفمبر 2019 02:15

تنهدت ياسمين وهي تضم نفسها، تشاهد غروب الشمس الثامن على التوالي وهي بنفس الحالة، ترنحت فور وقوفها فجسدها لم يتحرك لفترة كافية أن تغَيّر الكثير بالعالم، مهتديةً بشعاع القمر الصغير الذي تسلل بشقاوة من النافذة توجهت إلى سريرها.
أغلقت عينيها الأمر الذي لم يفرق معها؛ فهي بكل الأحوال لا ترى إلا الظلام: «اخرجي وأغلقي الأضواء»! قالتها ياسمين بانزعاج وهي تغلق عينيها أكثر فأكثر لتمنع أيّ نور من الولوج.
شهد -صديقتها- وهي تكتف يديها بعناد: «لن أفعل! لكن أنتِ ما الذي ستفعليه لمنعي؟» ثم تقدمت للسرير وأزالت الغطاء عن ياسمين، استطردت شهد حديثها بقسوة: «سأجيب بدلاً منكِ، لا شيء! لأنكِ ببساطة توقفتِ عن الحياة لعثرة تافهة!».
حاولت ياسمين إعادة الغطاء وعندما لم تستطع فتحت عينيها أخيراً بصعوبة بالغة واحتاجت أن ترمش أكثر من مرة حتى اعتادت الضوء، قالت بصوت خفيض شارف على البكاء: «العثرة ليست تافهة! لقد فشلت!» حيث همست بآخر جملة.
حركت شهد رأسها: «نعم لقد فشلتِ بجدارة»، عضت ياسمين على شفتيها في محاولة فاشلة لكتم دموعها: «لا تزيدي الأمر عليّ».
لكن شهد لم تهتم، أكملت كلامها بحاجبين معقُودين: «فشلتِ لأنكِ لم تعاودي المحاولة! فشلتِ لأنه لم يكن لديكِ خطة بديلة، فشلتِ لأنكِ وضعت كل مهامكِ في الأمور المؤجلة! فشلتِ لأنه عند أول سقوط لم تكملي الرحلة! وغير هذا أنتِ ناجحة!».
أثارت هذه العبارات المختصرة ياسمين، لأنها كشفت خبيئة نفسها، وأبانت عن عجزها، فهي لحد الآن فعلت كل متطلبات الفشل من فعل لا شيء!
أمسكت ياسمين بالوسادة تغطي بها وجهها لتشهق شهقات عالية، يكاد يقسم سامعها أن رئتيها تمزقتا بسببها، لولا طبقات قطن الوسادة الكثيف لظهرت دموع حزينة مالحة، كل هذا كان ليجعل أيّ شخص يشفق على ياسمين إلا شهد! فهي تعلم الماضي بتفاصيله الجيدة قبل السيئة.
انتزعت شهد الوسادة بعنف لدرجة تمزق جزء منها، قالت: «ليس الآن! ليس بعد الآن! لن أسمح لكِ بتدمير نفسكِ أكثر من هذا! مظهركِ الباكي لن يؤثر بي!» ثم أمسكت بيد ياسمين، حاولت الإفلات لكنها لم تستطع فقالت بصوت ضعيف: «يعجبني وضعي! اتركيني أرجوكِ!».
وكأن شهد لم تسمعها فقد واصلت سحب ياسمين حتى غادرتا الغرفة إلى مكتبة المنزل، فور وصولهما قادت شهد ياسمين لتجلس مكرهةً، وفتحت مجلد صور ياسمين وهي صغيرة.
قلبت ياسمين صفحاته: «أين ابتسامتي السابقة؟» ثم تحسست بيدها العارية صورتها كأنها تريد إخراجها من المجلد إلى عالم الواقع، لكنها تعلم أن هذا مستحيل لأنه عليها إيجاد ذاتها الواقعية، والتي لن يساعدها أحد بإيجادها غير نفسها الضائعة.
بتصرف يَنُمّ عن اليأس الشديد وضعت ياسمين رأسها على المكتب تبكي للحد الذي لا بكاء بعده! تبكي وتشهق وتنتحب، لكن ما التالي؟ ما فائدة بكائها؟ الجواب الصادم لا شيء! فقط المزيد والمزيد من تضييع الوقت والتحسّر على ما فات بدلاً من الإنجاز.
رفعت شهد رأس ياسمين وهي تخاطبها بنبرة صارمة: «لم أحضركِ هنا لتكملي بكاءكِ!» ياسمين بعينين أشبه بقطرة دم: «إذاً لِمَ؟ تريدين معاقبتي برؤية الماضي الجميل الذي لا أستطيع إعادته»!
لعقت شهد شفتيها وهي تحرك رأسها كاستنكار: «أحضرتكِ لتفهمي أنكِ عكس العالم في الماضي أقوى من الحاضر! أحضرتكِ لتفهمي أنه كما فعلتها في الماضي تستطيعين فعل أفضل منها في الحاضر». ثم أشارت على قلب ياسمين وهي تكمل: «المهم أن يحب هذا ما تفعلينه» اتجه اصبعها لعقل ياسمين: «وأن يؤمن هذا أنكِ تستطيعين إن شاء الله!».
فتحت ياسمين فمها لتتحدث لكن الكلمات ماتت في زاوية فمها، يبدو أن شهد أحست بها فسارعت لإغلاق فمها بيدها قبل أن تنطق، قالت شهد: «الآن ليس وقت الحديث.. فقط أزيلي كل الحواجز ليدخل كلامي لروحكِ».
وضعت شهد يدها على ياسمين مبتسمة تكمل كلاماً كان يجب أن يكتمل منذ زمن بعيد: «إن الوقت الذي نظنه وقت النهاية هو في الحقيقة مجرد البداية. لا يهم السقوط بقدر أهمية القيام من جديد. كل لحظة في حياتنا تمر لن تأبه لكوننا خسرنا أو فشلنا أو تألمنا لذا علينا المحاولة والمحاولة والمحاولة حتى نصل لهدفنا. ولو أردنا النجاح لا توجد قوة في الكون سوى الموت تمنعنا من تحقيقه، فحتى الفشل هو وقود إنجازاتنا القادمة. والضعيف الذي يستسلم لكونه وجد جداراً يفصله عن هدفه، الواجب علينا القفز على هذا الجدار لنخطو، فالنجاح خطوة تلحقها خطوة حتى نقطة الوصول. والمستحيل كلمة اخترعها بعض البشر كغطاء للفشل، بذكرها كثير من الأحلام لم ترَ النور، وبسببها دُهست بذور أفكار عظيمة، لكن بإرادتنا يصبح «المستحيل» كلمة ليس لها معنى، وقريباً تحذف من قاموسنا. والخيار في النهاية للإنسان يكون أو لا يكون، يكون مثل بلايين نماذج البشر الأخرى، أو نموذجاً مختلف لوحده يصنع ذاته ومستقبله وعالمه».
ركزت ياسمين نظرها إلى بقعة واحدة كأنها ترتب أفكارها، قالت وهي تجرب مذاق الكلمة على لسانها: «عالمي؟» وقفت من غير مقدمات لدرجة أن المقعد سقط من خلفها، كررت الكلمة: «عالمي!» ثم وجهت نظرها اتجاه شهد: «مشكلتي أني منعزلة في عالمي، قضيت أياماً طوالاً أستمع للصوت السلبي داخلي، ورضخت لكلام الناس المحَطِّم، في تلك الأيام الثمينة نسيت كل النسيان أن ما فات لن يعود وأنا قضيتها بالبكاء! لكن أخاف أنني فقدت وقت التدارك حقاً!».
قاطعتها شهد بسرعة وهي تحرك اصبعها: «النجاح لا يعرف وقتاً أو عمراً، النجاح يأتي عندما تريدينه، عندما تبذلين الغالي والنفيس لتحقيقه، النجاح يحتاج إلى التضحية لكن في النهاية النجاح سيجازيكِ على كل جزء صغير من تضحياتكِ، وبالنسبة للوقت لدينا الكثير الكثير من الثواني في اليوم وأنا أعنيها بالحرف».
ابتسمت ياسمين بهدوء، شعرت شهد بما تريد قوله، فأجابت بابتسامة مماثلة من غير أن تسأل: «صدقيني لدى كل إنسان قوة عظيمة وهبها الله له، واجبنا وحق أنفسنا علينا اكتشافها واستغلالها أفضل استغلال بطريقة تخدم نفسكِ ومجتمعكِ ككل».
ثم مسحت شهد بقايا الدموع من عيني ياسمين: «حسناً حسناً، لا تكرري الخطأ مجدداً وتأسي على ما فاتكِ، انطلقي الآن فهناك حياة تنتظركِ بحلوِهَا ومُرِّها».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©