النار التي يشعلها النافخون على الجمر، لا بد أن تحرق شيئاً من وجوههم، وأن يتطاير شررها ليعمي عيونهم المفتوحة على لذّة الحريق، ومن يغذي النار بالضغينة، ومن يربّيها في عشّه، فلا بد أن تكوي يديه في النهاية، وتتركه رماداً في مهب الريح، يخرجُ الحاسد من بيته فجراً فتؤلمه انفراجة الرزق على الفقير، ونزول الرحمة عليه، ويجلس الجشعون إلى مائدة الجماعة، فيغصّون باللقمة الزائدة، كأن خير الأرض سيتبخر يوماً أو يزول، ولا أحد يتعظ، حتى وهم يرون الكراهية تأتي على الحرث والنسل، وتبثُّ في أنس النفوس ظلامها.
للنار وجوهٌ كثيرة باردة، منها العناد الذي تتخشبُ فيه العقول، ويصيرُ أصحابه حاجزاً حجرياً ضد الحرية والجمال، ومنها النكرانُ، حين تحملُ أنت الوردة وتمشي في الصقيع وتطرق باب من أحببتها، ويكون جزاؤك أن تُترك واقفاً هناك، إلى أن تذبل وردة المحبة في يديك وفي قلبك، والتجاهلُ هو وجهٌ من وجوه النار، ومثله نيّةُ المكيدة، وتمزيق رسائل العشاق، واليأس حين يتفشى في الرئتين، ويخنقُ صاحبه ويُرديه.
تُضرمُ النار بكبريت الغضب، وقد تصير جبلاً إذا احتدمت الغيرة في قلب المغدور، وتأججت رغبة الانتقام فيه، وما من مخمدٍ للنار غير الحب وحده، حين يتجرأ المكابرُ على الانحناء للزهرة، فيشمّ فيها عطر الطبيعة البكر، وعندما يلتفتُ المغرور إلى صورته على الحائط، ولا يجد من يصفّق لها غيره، فيدرك متأخراً أن التعالي على الآخرين هو شكلٌ من أشكال العزلة والانتماء إلى الوحشة والخوف، وبالحب وحده، يمكن للشاعر أن ينتمي للورقة، ويسكن في بياضها الرحب العمر كله، وبه يمكن للقصيدة أن ترفرف في وجدان من جلسوا يتأملون في جدوى الوجود، وراحوا يكتبون عن طيف امرأة هي الحب في صفته الأنقى، وفي ملمحه الخفي، وفي شكل معناه.
إلى الحب، ينبغي أن يتسابق الفرسان في ظهيرة العشق ليغنموا كأس الشفافية، كلما التقت يدٌ بيد، صفقت المحبة، ونبت لها جناحان، وطارت حرّة في المدى، وكلما تفتّحت يدانِ إلى يدين، أزهرت شجرة العناق، وتفرعت أغصانها في رحابة الأفق كله، وقد يجلس الحب وجهاً لوجه قبالة النار، فتصابُ أطرافها بالبرد، وقد تتيبسُ ألسنتها اللاذعة، ولا يعود أصحابها يقوون على بث النميمة حتى لحجر.