لقد مزقنا أحلام التاريخ بالأوهام، واعتقدنا أننا نستطيع العيش منفردين، ومن دون ظلال، وبالتالي ذهبنا إلى الصحراء، ووقفنا تحت أشعة الشمس اللاهبة، فإذا بنا نصاب بالدوار، ويطيح بنا الغثيان، فنقع على الأرض التي فكرنا في لحظة من غفلة أن نغادرها، ونصعد إلى السماء، متحدين كل الصعاب، ولكن للأسف، أصابنا ما أصاب عباس بن فرناس، فتضعضعنا، وضعفنا، وتهاوينا، وهوينا في حضيض الكمد، والنكد، ولم نستطع الصعود، لأننا بلا أجنحة، ووهم بن فرناس وضعنا في الخدعة البصرية.
إذا كان الرجل لا يستطيع العيش بدون امرأة، وكذلك المرأة ليس بإمكانها الحياة من دون رجل، كما أن الرجل لا يمكنه الوصول إلى أعماق البحر، من دون مجداف يؤازره لتحقيق ما يرمي إليه من نوايا المجد.
كما أن المجتمعات تقف عاجزة عن تلبية مطالب تنميتها، ونهوضها، وتقدمها، وتطورها، من دون التواصل مع مجتمعات أخرى. هكذا هي الحياة، حلقة حلزونية مستمرة في الدوران، والصعود، وإذا ما اعترضتها عقبات الأنانية وعراقيل التقوقع، فقدت مصداقيتها، وخسرت ديمومتها، وأصبحت مثل الإناء الفارغ.
نحن في التسامح نشذب الشجرة العملاقة من الأشواك الوخازة، ونهذب مشاعر الوحش لنجعله قابلاً للترويض، ونرتب أثاثنا الداخلي، ليصبح مهيأ للعيش السليم.
التسامح هو السحابة التي تبلل ريق الأرض، وتجلل الأغصان بالاخضرار، وتكلل الطقس بالهواء النقي.
التسامح عصاً سحرية تزيح عن كاهل الإنسان غبار السنين، ودهان التاريخ، التسامح هو النهر الذي يمنح عيون الطريق بريق التألق، وهو الذي يمنح النشيد صفاء الشدو، ونقاء الأنغام.
التسامح ليس قراراً فورياً أو مرسوماً إدارياً، إنه تنشئة وتدريب، وتمرين على تقبل الأضداد، كما هي، وليس كما نريد، وتحمل عصف الريح أن هبت من الجهات الأربع، وإذا جاءك فاسق بنبأ، فتبين أولاً، ولا تملأ جعبتك بالغث، ثم أنظر، وتبصر، وتفكر، وتخيل أن الحياة ليست أحكاماً مطلقة، بقدر ماهي تضمين، وتخمين وبعدهما تمكين، وتسكين، ثم الولوج في فضاء الطمأنينة، والاستقرار هناك، كي لا تغشي العين غاشية الألوان البراقة، فتأخذها إلى مناحي الكدر، وضيق الصدر، وفقدان البصيرة.
التسامح هو الانتقال من الكهف، إلى الفناء الواسع. والتحول من العتمة إلى النور. ومن اللظى إلى الظل، ومن الجدب إلى الجدول.