حدث أن نادت ثورات، ونظريات، وأفكار بالتسامح مع الآخر، وسارت في طريق تنفيذ ما ادعته وما دعت إليه، وتشدقت به، وتحذلقت، وفصلت، وفسرت، ولكن كانت النتيجة طغياناً وبهتاناً وافتتاناً بما حققته من إنجازات على الصعيد المادي، ما أدى إلى المزيد من التضخم الذاتي، وتمزق الشراع الذي لم يصمد أمام الانبهار بمشاريع وهمية، وخرافية، فارتد الرمح في صدر الرامي، وانتكست أعلام التسامح لتصبح مجرد أوهام في عيون النيام، وصارت العلاقة مع الآخر، مثل علاقة الموجة الهائجة بالسواحل الوادعة، تأكل، وحفر في الأعماق. إذا لم يستطع الإنسان التسامح مع نفسه، فإنه من العسير الوصول إلى الآخر من دون زبد، وكمد.
ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن لا يحب نفسه لا يستطيع حب الآخر، فأصل الحب هو أن تكون محباً، وعاشقاً للحياة، ومن يعشق الحياة، يعشق من يعيش فيها، ويتربى على ترابها. حب الذات لا يعني الأنانية، بل إن الأنانية هي تدمير داخلي، وكراهية مبطنة للنفس، قبل كراهية الآخر.
التاريخ مليء بأمثلة كره النفس، فالذين كرهوا الآخر، واستعلوا، وترفعوا، واستكبروا، وتمادوا في التعالي، انتهوا إلى الفتك بالذات.
لقد انتهت الكراهية للآخر بهتلر إلى الانتحار، وكذلك الروائي الأميركي الأشهر، فعلى الرغم من بلاغة إبداعاته الإنسانية الرائعة، إلا أن هذا الجميل إبداعياً، انتهى به الأمر إلى الموت منتحراً، لماذا؟ لأن أرنست هيمنجواي، لم يكن سوياً في حد ذاته، بل إن الإنسانية التي كان يبرزها في رواياته، تخالف ما كان يخالجه في الداخل، أي أن في أعماق هذا العبقري، تكمن بذرة الكراهية لشيء ما، أو لكائن ما، ما جعله في لحظة معينه يقدم على الانتحار، وينهي تاريخه الإبداعي بمأساة مجلجلة، كشفت عن نزلة كراهية حاول أن يخفيها بين دفات أعماله الروائية، ولكنه لم يستطع، لأن كمية الكراهية كانت أقوى من قدرته على الاختباء وراء المشاعر الملفقة.
كي نحقق التسامح المطلوب، فنحن بحاجة إلى قدرة فائقة في التسامي أولاً، وإلى مساحة واسعة من الأنهار التي تغسل هذا الدرن التاريخي الذي أصاب الإنسان منذ أن خرج من الغابة، وسكن المدينة، وما أشعل الصراع المرير بين هذا وذاك، وبين هذا وهذه.
نحن بحاجة إلى نفض هذا الغبار وإلى تنقية السجادة من عفن التاريخ، ونفض الملاءة من بقايا سبات عميق، لوث قماشة الوعي، وجعلها خرقة بالية.