أصبحت الكتابة في الصمت فاتحة لكل كتابة. الصمت يسكن تحركي وتفكيري وساعاتي. والصمت حقل خصوبة تتزاوج فيه المعرفة والتحليل والتأمل والتفسير والتفكير. في الصمت تصير الحواس أكثر حدة، والمشاعر أكثر رهافة، والتأمل يصير أوسع واشمل وأدق. في الصمت أهضم ما أقرأ وما أسمع وما أرى وما أحس وما أحدس. في الصمت ينمو الحلم ويتسع، حتى يصير هديراً أحياناً، وفراشات ملونة أحياناً. وورد يرش عطره، وثمار تشي بقطفها. وما حركة السعي سوى اجتراحات الجسد. يفسر الناس الصمت بأنه العزلة. لكني أفسر الصمت بغير ما يفسرون. لأني أرى وأدرك بتأملي وعمق غوصي في لجة الصمت؛ أن الكلام واللغو هو العزلة. فالمتكلم والذي يلغو كثيراً، لا يعبر في الحقيقة عن مكنون ذاته وخفايا تفكيره في لحظة اللغو وتدفق الكلام. فالصمت ليس تعبيراً عن العزلة، إذ أنه لا يلغي الاتصال بالآخرين ولا بالحياة. ولكنه يعمِّق هذا الاتصال بالآخرين، قريبين كانوا أو بعيدين. كما يعمق الاتصال بالحياة في تجلياتها وتعدد مساراتها. في الصمت يتجلى لي الأمل الذي أصوغ حياتي بانتظار تحققه.
وها أنا في نشوة الصمت انتظر حتى صار الانتظار أسلوباً وممارسة ونفساً عميقاً وطويلاً. فعندما يكون الانتظار متوتراً مرهوناً بالساعات، ومسيطراً على قوة الدماغ وفضاء الخيال إلى حد الشلل، يصبح مرتبطاً بالضرورة بالأسى واليأس. لكنني أدرك أن انتظاري يسير متئداً على جسور الأمل. إنه انتظار هادئ طويل كالاستراتيجية لكنه غير مرحلي لأنه مربوط بالعمل وبالحلم وبالسعي للعطاء. أنه ممتد، ممتد إلى ما لا نهاية. انتظاري لإشراقة الأمل لا يقلقني، لأنه سيتحقق ويضيئ حياتي يوماً. وانتظاري لهذا اللقاء لا يقهرني لأنه سيتم يوماً. لكأن انتظاري الطويل منذ سنوات العمر الأولى لهذا اللقاء قد علمني الانتظار المستمر، بتحقق لقائك أيها الأمل. ولنسلم أن لقاءنا كالمحبة بين كائنين قد لا يكون. أليس لقاؤنا في الجوهر والعمق والالتحام على مدى الأيام والروح والتفكير والأحلام كائناً وراسخاً لا يزول؟ وما حالات القلق والهم الآني والشوق المتصاعد إلى لقاء الأمل واحتضانه لحياتي، وتحقق أمانيّ وأحلامي سوى تعبير عن رغبة شديدة في تجسيم هذا اللقاء وتجسيده في مسار حياتي.