في الأماكن العامة، تبدو الحياة مثل كتلة من الحبال الملتوية تحت الشمس، بلا فائدة.
هنا تصادف وجوهاً، وتلتقي بعيون بعضها مغضنة الجفون، وبعضها متألقة ببريق يشدك إلى تأملها ولو عن بعد، ومن دون لفت انتباه أصحابها. في هذه الأماكن تبدو الحياة مسرحاً مفتوحاً، لكل الممثلين من محترفين وهواه، وتبدو أنت مثل المتفرج الذي يحضر لأول مرة في حياته مسرحية هزلية.
وجوه تطالعك، وكأنها تعرفك، وأخرى تنظر إليك كمن يتأمل دمية في محل تجاري عملاق. وأنت هنا في هذا المكان، تدور مثل ذبابة حائرة، وتنظر إلى العالم من حولك، وكأنه في مهرجان صيفي تؤمه الأرواح من كل جهات الأرض، لتفجر عن رغبة في الاكتشاف.
تظن أنت أن الحياة سرمد يمتد من الوريد إلى الوريد، ولكنك عندما تمعن النظر في الوجوه تكتشف أن الحياة ليست إلا ثقب أبرة، الناس خيوطه الممتدة من أول النظرة إلى الأشياء من حولهم، إلى آخر نظرة عند الخروج من هذا المكان أو ذاك.
وجوه يحلو لك أن تطيل النظر فيها، ووجوه تصد عنها من أول التفاتة، وجوه تصيبك بالغثيان، وأخرى تملأك بالحنان.
لا تدري أنت ماذا يكن هذا الوجه، وماذا يخبئ الوجه الآخر، ولكنها التلقائية هي التي تجعلك تفكر هكذا، وتضطرك إلى البحث، والتحري، عن وجه لا يغمك، ولا يحثو في وجهك تراب الهم.
في المكان العام أنت في حفل بهيج، وأنت في جمهرة تكتظ فيها العيون، والمشاعر، وتتزاحم الأفكار، وقد تهاجمك فكرة عن هذا الشخص الذي لكزك بكوعه من دون أن يدري، وقد يستفزك، ولكن نظرة حانية لطيفة وشفافة قد تزيل كل الصدأ من صدرك، وتدعوك للابتسامة، والصفح، ولكن في موقف آخر، قد تشعر بانفجار في موقد الصدر، عندما يدفعك شخص ما لا إرادياً، ولكنه لا يمنحك الابتسامة، بل يشيح بوجوم ولا يلقي لك بالاً، هنا تتكوم في صدرك كل رمال الصحراء، وتدخل في تلافيف القلب، وتسد الشريان، وتشعر بالضيق، وكأنك دخلت في خندق ملئ بغاز ثاني أكسيد الكربون، هنا في هذه اللحظات يتغير المزاج، وتشرئب الأعناق، وتكتئب الروح وينتابك عالم غوغائي أشبه بتصادم التيارات الرملية في بطحاء قاحلة.
تغادر المكان وفي المهجة موجة، وعلى رأس الموجة زبد، وفي أحشاء الزبد تكمن نقمة عارمة، فقط لأن الشخص لم يبتسم.
في حينها تعلم أن الابتسامة مكنسة تزيل كل الغبار، مهما بدا غزيراً وكثيفاً.
الابتسامة كالوردة، وعطرك، تزيل عنك القبح وعفونة الأفكار المبيتة.