عندما تضيق المسافة ما بيني وبينك، تكبر الكلمات، وتسفر اللغة عن معنى ودلالة. نصبح في الحياة مثل رافدين لنهر واحد، نصبح كساعدين لجسد واحد، نصبح كعينين لوجه واحد.
الفجوات هي التي تخلق الاغتراب، الثقوب في القماشة ترهقها. نحتاج إلى عربة سريعة الخطوات، لنصل إلى مكان ليس فيه فجوات، ولا ثقوب تخر منه معاني اللغة، وتنهزم العبارة. عندما نغترب نبدو مثل طيور ضيعت مسارها إلى الأعشاش، ونصبح مثل أنهار فاضت جداولها، فساحت مياهها في رمال الصحراء.
عندما نغترب، تبدو اللغة مثل حروف هيروغليفية، مبهمة، عندما نغترب، نتيه في مدن ليس لها وجوه، ولا لها رائحة، ولا لون. عندما نغترب، يغيب عن نظراتنا بريق الفرح، ونغيب نحن في شعاب لوعة البحث عن الذات. عندما نغترب تنكسر عصا التوكؤ، فنتعثر، ونتبعثر، ونتكدر، ونخسر رهاننا مع الحياة. عندما نغترب، تصبح المدينة التي تطوقنا بجدرانها العالية، مثل سور يخفي خلفه طيوراً بأجنحة بلا ريش. عندما نغترب تصبح الذاكرة مثل قماشة رثة، نصبح نحن مثل طرائد تلاحقها مفترسات ضارية. عندما نغترب تضيع لغتنا في عصف، ونسف، وخسف، ورجف، تضيع عبارتنا في مجاهيل البحث عن كوكب فقد مساره، واتحد مع موبقات الألم الفظيع. عندما نغترب، فلا مكان للفرح في قلوبنا.
الفجوات في حياتنا، هي مثل ثقوب الأوزون في الفضاء الخارجي، تملأ حياتنا بالحرقات، وارتفاع سخونة العلاقة، فنضج بالحميم، والجحيم، والبوح الأليم. الفجوات مكان أحلامنا المبتسرة، ومكان أيامنا القاتمة، ومكان آلامنا المبرحة. الفجوات تفتح شوارعها لكثير من الحوادث المؤلمة، عندما نصبح نحن في الفجوات علامات استفهام غامضة، عندما نصبح نحن فواصل في جملة غير معرفية. الفجوات تطيح بنا عندما نكون نحن الذين نردمها بفقاعات الماء، أو زبد البحر. الفجوات تحطمنا عندما نكون نحن سعفات مهترئة في وجه الريح العاتية.
الفجوات تحبطنا عندما نكون نحن بقايا قهوة في قاع فنجان مثلوم. الفجوات تحفر في قلوبنا جروحاً دامية، عندما نكون نحن بلا أظافر تحك ظهورنا الفجوات ليست إلا كهوفاً نحن الذين نبني أحجارها، كي نخبئ عيوبنا. الفجوات ليست إلا مساحيق فاسدة، نخفي خلفها وجوهنا القبيحة. الفجوات ليست إلا خداع بصرية تغرينا لزمن مؤقت، ثم ترفع عنا حجابها، فنشعر بالخدعة بعد فوات الأوان.