الانحياز إلى الثقافة، والركون تحت ظلالها، هو المأمن الوحيد لبراعم المستقبل، ومن يظل يسقي شجرة الثقافة بعرق الأيام، فلا بد أن يجني ثمرة الحقيقة، هذا ما نراه وما نلمسه في الحياة الثقافية التي تُزهر في كل عام في الإمارات، هذا الفوران العالي لأنشطة الثقافة في كل مدن الدولة، دليل حيّ على أن رهان الحكومة على الثقافة كان صحيحاً على الدوام، وأمام لغة الفنون الجميلة التي تفوحُ معارضها بأزهى ألوان الطبيعة، وبالأفكار الجريئة والجديدة في الطرح، وفي التعامل الفني الذكي مع الأشياء والمواد، ومع نحت الكتلة وتشكيل الفراغ، تكبرُ اللغة البصرية التي تقف نداً أمام اللغة العمياء، التي تنادي بالظلام ركناً وحيداً وجحراً آمناً للخائفين من النور.
تحتفي الإمارات بالقراءة والكتاب، وتشتعل المدارس وأروقة المؤسسات بمظاهر الاحتفال بالكلمة، وتقدير مسؤوليتها، وفهم أبعادها ودلالاتها، ثم تأتي معارض الكتب الكبيرة في الشارقة وأبوظبي، لتكمل دوران الكتاب في حياتنا، بصورة تجعله زاداً يومياً في تعاملاتنا، ولا تقوم الثقافة إلا بالكتاب كأصل يؤرخ للأثر، وفضاء يفتح باب الخيال واسعاً لإبداع صورة المستقبل، ورسمها ظاهرة هنا الآن للعيان، والسعي الذي يتجذّر كل يوم في تأسيس المكتبات الكبيرة والصغيرة، العامة والخاصة، في المؤسسات وفي البيوت، هو الذي جعل من الإمارات أرضاً للتسامح والحوار والتعايش الجميل. فالكلمة المستنيرة هي التي تؤسس للفكر الحر، وتسبق فعله، وهي أيضاً ميزان الحوار والمنطق في تعاملنا مع الآخر، من غير تعصبٍ أو انغلاق على الذات في عالمٍ مفتوح تتجاذبه رؤى الصداقة ورغبة الخلاص من تركة الماضي الثقيل، الذي جرّ على الإنسانية ويلاتها بسبب تعنّت في الفكرة لا غير، والجميل أن الإمارات تمد يد الكتاب إلى خارج حدودها، وتبث في شرايين وطننا العربي برامج في تحدي القراءة وتعزيزها لدى الصغار، وتصون اللغة العربية وتحتفل بمنجز المشتغلين على رعايتها، وترحب بترجمة آداب الشعوب، وإبداعهم الإنساني الثري.
لا تتوازن كفة الثقافة إلا بقراءة تراث الأمم، وإحياء تراثنا، والوقوف معاً على المشتركات الإنسانية الكبيرة والكثيرة، التي تركها الآباء والأجداد على مدى قرونٍ طويلة، حتى ذابت في وجدان الناس، وترسخت في عاداتهم على شكل قناعات وأمثال وممارسات في الحياة، وفي الوقت الذي تنهض فيه مؤسسات التراث لدينا، بمبادرات لتدوين الأثر الرائع والخبرات الإنسانية لماضي أهل الإمارات وناسها، فإننا في المقابل نحتفي بتراث الشعوب الأخرى الصديقة، ونستلهم منهم ذلك البعد الثقافي الشعبي، الذي لا يختلف كثيراً عنّا إلا في تفاصيل البيئة وأثرها، لأن القيم الإنسانية تظل واحدة، وإن تعددت مروياتها وحكاياتها وأمثالها، هكذا نصافح الآخر ونحن ندرك كلانا، أننا مختلفان في الشكل واللغة والعرق والدين، لكننا نتشابه جميعاً في الجوهر، وفي الغاية الأسمى وهي التعايش والمحبة، ولا بديل لكلينا من المشي في هذا الطريق.
كي تظل شجرة الثقافة تنمو لتظلل بأغصانها أحلام الجميع.