عند الثامنة صباحاً في يوم غائم، اختبأ الجبل في معطف الغيمة، كجرو صغير، تاركاً المكان في إنترلاكن يغط في الفراغ الواسع، والمطر ينقر الأرض الفسيحة، ويغسل أشجارها بالبلل. تطل من المكان البعيد، وعبر شرفة زجاجية، تنظر إلى السماء، فلا تراها كل شيء في سويسرا أبيض، وبارد، كل شيء يبدو مثل شرشف عظيم، وشفاف، وأنت تطل من خلال مشاعر الرفاهية الطبيعية، وتثريك الغيمة بأحلام طفولية، وثبت فجأة مثل قطة أليفة، طوقتك بهالة من الحنين إلى عالم خفي وسرمدي. المطر وحده الذي يذكرك بأيامك الخوالي، ويأخذك إلى مناطق في الوعي تبدو قريبة جداً من غرفتك الدافئة في فندق لوزان بالاس. حب جارف يأخذك إلى أماكن عميقة في تاريخك المديد، والعمر يصبح مثل قماشة رقيقة تنسحب من بين ثنايا السنين، أنت هنا الآن في هذه البقعة من العالم طفل تدهشه هذه النقرات على زجاج النافذة، المطر، مثل طائر صغير يدفق نثاته على جبينك، وعلى جفنيك تشعر بالعذوبة، وتتلمظ الرضاب السماوي، والغيمة تطوف حول الجبل كحارس أسطوري، وخيوطها الفضية تتدلى مثل خصلات أنثى يانعة، وأحلام تتوارد على الذاكرة، تمر مثل السيل، وتذهب بك إلى سنوات، كنت فيها الطفل الذي تدهشه الغيمة عندما تلحف السماء بملاءة كثيفة، وبعين تعصر ثديها، لترضع أعشاب الأرض، وتسقي الأشجار من شهد العذوبة. أيام في لوزان، تختصر العمر، وتفتح آفاق الحياة، وكأنها شوارع في أبوظبي، منسوجة من حرير الذين يعشقون الحياة، ويزخرفون أعمار الناس بالسعادة، والأنفة والكبرياء. مرة أخرى تنظر إلى الجبل فلا تجده، يذهلك هذا الاختفاء ويفرحك أيضاً، تفرك جفنيك لعلك تراه، لكنه فكر بالاختباء، وكأنه يريد أن يذهب بعيداً في الدفء، لتلافي وخزات البرد، والطير هنا يحضر بكثافة، كلما همت الغيمة في افتراش سجادتها الفضية، ويظل رافعاً نشيده، وفارداً أجنحة الفرح، محلقاً تحت سقف خيمة السماء مباركاً خلق الله بهذا النعيم الإلهي، والناس من فوق الأرض، يفردون مظلات الوقاية من البلل، ويطوفون الشوارع، مثل سفن صغيرة، نشرت الأشرعة من أجل السفر. في آخر يوم من رحلتك القصيرة، تمد يدك للغيمة، تود مصافحتها وفي عينيك سؤال لماذا الغيمة مثل الحسناء المراوغة، تدلك على جمالها، ولا تقترب من يديك؟ لماذا أنت عاشق من طرف واحد في كل الأحوال؟ ولكن مع كل هذا الشغف، تظل الأسئلة معلقة بين شفتيك، ولا يبللها سوى المطر.