من الشرفة تطل عليك جبال الألب، وقد نظف المطر أسنانها، فبدت ناصعة البياض تهديك ابتسامة الإشراق في الصباح الباكر، وفي امتدادها تبدو مثل أشرعة عملاقة لسفينة هائلة الهيئة، وهي ترسو على شاطئ البحيرة العظيمة. تشعر وكأنك على مسافة قريبة من السماء، والغيمة الرمادية، تفرش لك شالاً بحجم أشواقك إلى بلادك البعيدة. غراب بلون الليل ينقر البذور القريبة من منقاره الأصفر، وينعق، والصوت أشبه بخرير الماء النازل من أحشاء الجبال الشم، كل ما يدور من حولك يحرك أشجان الطبيعة الراقصة على أنغام رذاذ المطر. درجات الحرارة تحت الصفر، فوق معطفك، تغزل حرير النمنمات على جلد حياتك، هنا التفاصيل تذوب مع ندف الثلج، ولا شيء يزعج الطير الهائم في سماء لوزان، هنا الأشياء مكسوة بأحلام النساء السارحات مساءً يبحثن عن شال يدفئ مشاعرهن، هنا الصغار يعبثون بالثلج مثل فراشات أنعم الله عليها بعطر الورد، ولون أجنحتها بانعكاس ما خلف الكثافة العشبية. هنا كل شيء يمتلئ بالحب، وهنا كل شيء يزخر بالعبير، وكل شيء يعزف لحن النجوم المتلألئة في زجاجة السماء. في الصباح المبهر، يصل إليك أزيز القطارات، ورفرفة الطير، وكعوب النابهات صحواً، الذاهبات إلى مسرح الحياة، المترفات بعناقيد النضوج. المسافة ما بينك والخطوات، أقرب من الوريد والشريان، لا شيء يفصل الأكتاف عن الأكتاف، بل كل ما يفصل العيون عن العيون هما رمش، ولون باخضرار العشب على سفوح ذاكرة المطر. في بلادي الإنجاز يفوق تصور العقل، ولا نشتاق إلا إلى حبات البرد، كي تصفق لشوارعنا الفسيحة التي تربو إلى مسافة أبعد من النظر، نحتاج فقط إلى المطر، نحتاج إلى جبال أسنانها بيضاء، ولا شيء غير ذلك. أطل على البعد المترامي، وأقتعد كرسي التأمل، أشعر وكأني في حضرة بوذا، والصحوة المباركة، تختزل كل الضجيج في رأسي فيقول لي مارتن لوثر كنج هنا استيقظت الكنيسة في ذات صباح، فوجدت المسيح عليه السلام يبتسم للذين يهرطقون، ويسفون، ويقول إنني أحب المذنبين، لأنهم أكثر حاجة إلى التعاطف من غيرهم، لأنهم تِعسون. وأتذكر روسو القائل: لو آمن الناس جميعاً بما خلقه الله في قلوبهم لاكتفوا جميعاً بدين واحد دين الله. عندما تقرأ ما في سطور الطبيعة، تشعر بصواب ما جاء به فيلسوف العقد الاجتماعي، وتشكره على رجاحة عقله وسذاجة من ينبذون الآخر، ويتعالون على ما يعتقده غيرهم. الحب وحده يزرع أشجار الجمال ويزخرف الحياة بقلائد الفرح.