بداية أعتذر من القراء الكرام عن تغيب عمود الأمس «تذكرة.. وحقيبة سفر- 2»، فلأول مرة بعد خدمة سبع عشرة سنة في الكتابة اليومية، أنسى إرسال العمود، وما أنسانيه إلا الشيطان، فقد كتبته صباحاً على غير العادة، وأرسلته على بريدي الإلكتروني الآخر الذي أخزن فيه كل أعمالي، وهي عادة يومية، لأتأكد من وصول العمود إلكترونياً، لكن يبدو أنني لم أرسله لـ«الاتحاد» مثل عادة كل مساء، حزمت حقائبي وسافرت، وأغلقت هاتفي في الطائرة مطمئناً، ونمت، وبعد الوصول وجدت اتصالات منهالة من الاتحاد، فقد سببت للزملاء قلقين، قلقاً على العمود، وقلقاً عليّ، فبدا لي أنه العد التنازلي للزهايمر المبكر.
وبمناسبة العد التنازلي، هناك فيلم أميركي جديد يعرض في الإمارات وبعض الدول العربية، اسمه «Count down»، يتحدث عن قصة ممرضة وجدت تطبيقاً في هاتفها مختصاً بالعد التنازلي للموت، فنزلته، فتنبأ لها بثلاثة أيام باقية من حياتها، وهنا تنقلب حياتها، وتكثر مخاوفها، وتصاب بالهلع الموتي، قد يدرج مثل هذا الفيلم في خانة أفلام الرعب، وقد يدر أموالاً مثله مثل الأفلام التجارية التي تلعب على عقلية المراهقين، وقد يكون ممولاً من كبرى شركات الهاتف النقال العالمية، كل ذلك يهون، لكن المسألة المهمة والخطيرة أن هذا البرنامج موجود في تطبيقات إحدى شركات الهواتف المشهورة، ومن هناك يمكن أن يحطم حياة صغارنا ومراهقينا، وضعاف النفوس، والمهووسين اجتماعياً ونفسياً، ويمكن أن يخلق تأثيراً سلبياً حتى على الناس العاديين، فقلت والله لأجربن لأتأكد، فذهبت للتطبيقات، وأنزلت البرنامج، فظهر على شاشتي ميزان العد مثله مثل الفيلم، وشعاره مثل شعار الفيلم: 27 سنة، 18 يوماً، 4 ساعات، 25 دقيقة، وبدأت أسمع دقات قلب، ونبضات متسارعة من النور، وفجأة سخن الهاتف، وبدأ العد التنازلي، بصراحة تخربطت «شوي»، ولا نفع في تلك الخربطة كتاب «الغزالي»، ولا «حرز الجوشن»، ولا «الحصن الحصين»، خاصة أن الهاتف أصبح مثل الجمرة في اليد.
وتدركون المسألة النفسية، وتهيؤات كاتب يهوى التفاصيل، وارتياد آفاق الخيال، كلها تصب في خلق ذلك الشعور بالعدم، فقلت لو أن هذا الأمر يحدث مع أولاد صغار أو بنات مراهقات بعيدات عن رقابة المنزل وذويهم، ويذهبون إلى آخر مدى في هذا التطبيق الذي يؤدي إلى التسابق مع العد التنازلي، وربما تقريب النهاية، بذلك الانتحار غير المسؤول والعبثي.. عدت مساء إلى أبوظبي، فوجدت هاتفاً جديداً مرسلاً من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أطال الله في عمره، «وهباب ما نزّلت الأرقام من التلفون العاثر أبو تطبيق العد التنازلي، وفرّيته بطول أيدي، في واد سحيق، ما له قرار، وبرأيه خلّه يعدّ من ورائي إذا كان فيه نصخ أو عرق صحيح»!