من فندق لوزان بالاس، ومن خلال نافذة أشبه بمرآة أسطورية، تطل أنت القادم من لهفتك على العالم، والعالم يهديك بقعة ضوء، كأنها قرص الشمس. تقف وضجيج الصمت من حولك يطوقك بالسكينة، ويجعلك تحلق بأجنحة أشواقك القديمة، تحدق في الفراغ اللامتناهي، فيباغتك السحر، والطبيعة لم تزل تمارس قراءة صحن «المحو»، وتكتب بالزعفران آيات جمالها، وما تفتق عن فطرتها المبدعة. من النافذة يطل عليك البحر، ليمد لك شراع السفر، تمتطي أنت صهوة شغفك، وتسافر، تصل إلى المدينة المضاءة بأشواق الشجر، وحلم الغيمة، وبهجة المطر، ثم يأخذك الوجد لوجود على قمة الجبل، وتذهب برعاية مشاعر أصبحت مثل قلادات تطوقك بالفرح، وتمنحك حب الحياة، وتهبك الاستمرار في تلاوة ما يجيش في صدر الطبيعة الخلابة. أنترلاكن، مثل قارة يسكنها كائن خرافي اسمه الثلج، هذا الأبيض الساحر، يجعلك تمحو سنوات من عمرك، لم تكن إلا غباراً من الكبوات، هذا الأبيض يلتصق على جدار روحك، فتبدو مثل شاشة سينمائية، تتوالى فيها الصور القديمة، متهاوية مثل الأوراق الصفراء، وتبدو أنت مثل شجرة الصنوبر تتحرر من أوراقها الصفراء، لتستقبل ربيعها بأوراق نضرة، ندية. أضواء بلون الذهب يعكسها الماء لتصل إلى غابات الجبل، وبدوره يرفعها إلى السماء، لتلقن السحابة معنى العناق الأزلي وأنت تتابع المشهد، وترسم صورتك الجديدة على صفحات الوجود، وتحلم مع السحابة كيف يتكون المطر عندما تصبح القطرات مثل القبلات دافئة وحنونة ورقيقة وأنيقة مثل أناقة الصنوبر المحفوف بأنامل الذين يحتفون بالحياة، وكأنها ميلاد جديد لنجمة تلمع عند خد السماء. عند ذلك تتيقن من أن الفرح البشري يبدأ من هنا، من هذه البقعة المخملية من العالم، من هذه الخريطة الكونية التي أنجبت أعظم الفلاسفة في عصر التنوير الأوروبي، عصر الانعتاق من زخرفة الأفاقين، وأساطين الخداع البصرية. تنزل من قمة الجبل ومعك تهبط ذاكرة لولبية، مكسوة بأشجان كائن بشري يتخلق من جديد كلما عاصر ومضة الجمال في وجه من وجوه الطبيعة، كائن لا يحلو له غير أن يكون في صلب الوجود، ومعه تكمن حقيقة أن حب الجمال هو إبداع في حد ذاته، وأن أجمل ما في الوجود أن تكون خارج عقلك، وفي صلب الكينونة، عندها تكون أنت البشري المتكون من جديد. وبعد الرحلة السرمدية، يتراءى لك أن الكون بدأ من هنا من رقعة أنترلاكن، من جبالها الفتية، وصنوبرها الذي يصنع منازل الناس، ويحيطهم بالدفء، ويملأهم بالسكينة، ويلون ملاءات نومهم بنعومة الليل البهيم. وتعود إلى موئلك وأنت مفعم برائحة الورد، وعطر النساء البديهيات، واللاتي يحتشمن بأولوية الفطرة، وينسجمن مع الطير في روحه الشفافة، وتغاريده العفوية، والزمن يغرقك بالأسئلة كأنه رجل أكاديمي لا يعرف من الحياة غير الأيديولوجيا المغلفة باللغة المقعرة، وكلما تقعرت كلما هربت إلى براءتك التي هي منغمسة في ثنايا البقع البريئة من هذا العالم.