نصطف كدول أو أفراد، حول فكرة، أو عرق، أو لون، أو مصلحة، ونمضي في اليقين الأعمى، مثل فيلة هائجة، في غابة اللاوعي، نحطم الأشجار، ونهشم كل ما يعترض طريقنا، ونغرق الأنهار والبحار بدماء الفاحشة، ومنكر الادعاء، ولا نستمع إلى ضمير ولا نصغي إلى حقيقة.
الاصطفاف يغشينا، ويجعلنا في البدائية الأولى، يجعلنا في غريزة الضواري والوحوش، فلا ندع ولا نذر، بل نقضي على اليابس والأخضر، تحت ذرائع وحجج واهية، ليست إلا صوراً من خيال نحتفي بها، ونحتفل بمشهدها المزري، ونترك الأرض من تحت أقدامنا، تئن من رفسنا، وركضنا، وخضّنا، ورضّنا، وعضّنا، نمضي هكذا بادعاءات وافتراءات وهراءات، نمضي ونحن محملون بأوزار البؤس، والرجس، والبخس، والنحس، ولا يعنينا ما يحدث لأمنا الأرض من دمار واندثار، واندحار وانكسار، وخراب ويباب، وعذاب وانتحاب واضطراب.
نمضي ويقيننا الأعمى يجرنا مثل عربات خربة، باتجاه منزلق التدمير لكل ما هو جميل، وكل معطى طبيعي نبيل. نصطف ولا نلتفت إلى الحقيقة، التي تصرخ في وجوهنا، وتقول لنا، إن في الاصطفاف، استخفافاً بالعقل، وفي الاصطفاف جفافاً وكفافاً للقريحة البشرية، وانعطافاً ناحية الوهم، وصور الخيال الزاخرة بالأكاذيب والتدليس، وإلباس الباطل ثوب الحقيقة، وتكديس النفايات في طموحاتنا، وقذفها في طريق المستقبل.
نصطف، ونتكلف العناء، من أجل الأنا التي تجعلنا لا نرى غير إصبع في اليد الواحدة، ونمضي في الحياة، مثل سلاحف ضلّت الطريق إلى الماء، فنهشتها مناقير ومخالب فاتكة، هاتكة. نصطف ولا نعلم أننا في الاصطفاف نمزق رغيف الحياة، ونلقمه لأفواه غابت عنها شمس الحقيقة، وأصبحت تلهث وراء فراغ اسمه أنا ومن بعدي الطوفان. نصطف، ونمرق، ونسرق من قماشة الحقيقة، ما يخفي نصف الحقيقة، ونبقى عراة في وجه العاصفة، نبقى حفاة تحت اللظى، ونمضي ولا نلتفت إلى حقيقتنا، كوننا في الحياة، أجزاء في نسيج واحد، ولا حياة لنا في الجزئيات، ولا بقاء لنا في الأشباه والأنصاف.
نصطف، ونختلف، ونتزلف، ونتخلف، ونتكلف ونمضي دون وعي، أو دراية، بأن ما نفعله هو ضد قانون الطبيعة، وضد ناموس الوجود، ولكننا لا نكترث، لأننا نعيش تحت سلطة اللاوعي، وفي غيبوبة الأنا الواهمة. نمضي في الحياة ونحن مبهورون باللون، كما هي الثيران الإسبانية، وننطح قيم الوجود، بقرون الجهالة، ونمضي.. ثم نمضي، ثم نقتعد كرسي الندم، في لحظة يكون فيها الندم، زبداً يغرق وجداننا بالتعب، وإدانة اللاشيء.