يا حامل الميزان تخفّف. كلا الجانبين وهمٌ، إلا إذا توازيا. انظر يمينك كي تلمح الحزن ثقلاً في نفوس النادمين على الماضي. وانظر شمالاً لترى أكداس المنتظرين فرجاً سيأتي غداً، ولا أحد سواك يسكنُ في اللحظة الراهنة. اللحظة التي لا يملك سرّها إلا الصاعدون في اليقظة، الذين تمرّسوا على فكرة الانتباه للعبة الزمن الذي لا يتقدم ولا يتأخر إلا بإرادتنا الحرة. والذين فطنوا للغشاوة التي يُسدلها الوهمُ على العين الغافلة، فلا يعود صاحبها يُدرك من هو في الأصل، ولماذا هو الآن هنا، وإلى أين عليه أن يمد الخُطى في متاهة السؤال.
سوف نتبعُ خُطاك من البداية يا حامل الميزان. عندما مشيت حراً على حبل الوجود، غير مكترثٍ بالتأرجح لأنه من طبيعة الدرب، وغير هيّابٍ للريح، وهي تهزّك هزاً، ولكنها لا تُعيق تقدمك نحو حضن الحقيقة وسرّها. الذكريات التي أصبحت جبلاً على ظهور الآخرين، كانت زادك لتصعد جبل الإدراك، وتنظر من علوّه إلى ما كان ضعفك. كنت في الماضي أسير عقلك الذي يقرأ الأشياء كما سمّاها الآخرون. لكنك اليوم مجرد قلب تسكنه الدهشة الدائمة، ومجرد بصيرة ترى اللانهاية أصلاً لكل البدايات.
سوف نسمع لكلماتك يوماً، عندما ضجّت الدنيا بالمدافع، وارتفعت الخناجر بدلاً من الأقلام، وصار يقال إن الحب سرداب الهالكين، والعشقُ قفص الداخلين إلى الفراغ. لكنك طويت الكلام المرّ، وزرعت مكانه زهرة الإصغاء إلى صمت الوجود. ثم قلت لنا: صوتُ الحقيقة لا يُسمعُ إلا إذا تطهّر الضميرُ من شهوة الأذى. كأن يقابل المرءُ بالصفحِ سلوك كل شوكة، وأن يقبل بالجراح تُدمي قدميه كلما ابتعد في الطريق.
سوف نرى مثلك يوماً. الرجل والمرأة كلٌ واحدٌ، ويراهما الجاهلُ ضدين. الواحدُ والأكثرية، ووهمُ الفرق بينهما في العيون المغمضة. الأنا والآخر باعتبارهما عدوين أزليين، وهما في الأصل انشقاق الخلّية وتوالدها من بعضها للأبد. وما دام الكون كله مجرد فكرة، فلا مكان للنقائض فيه إلا إذا ابتدعناها. خذ الماء واسكبه على النار، واقرأ في الدخان الصاعد ستجدهما كلاهما يبتسمان لك. أو خذ المسدس واستبدله بريشة نسرٍ، ضعها في يد المقهور ليصير طائراً متحرراً من رغبة الانتقام.
أن تصير أنت ذاتك، يعني أن تُزاحُ الفوارق الواهية بينك وبين أشياء الكون كلها. وفي هذا فقط، سر اكتمال هلالك وبعثُ صفوك.