جرياً على مذهب الحب، مشيتُ مغمض العينين نحو عينيها. واثقاً أن المسالك ستخلو من المهالك، وأن عبور المتاهة شرطٌ لكل وصول.
كنتُ طفلاً، أتسلى بالبكاء وهو نداء اسمها الأول، لكني كبرتُ نحيفاً مثل قلمٍ، وكم تمرغتُ متقلباً على الصفحات اليابسة ولم أجد شكلاً ثابتاً للمعنى. وكم فطستْ حروفي في قواميس الثرثرات، وأنا أفتّش عن حكمة الصمت، وعن الذهب المغشوش الذي في السكوت. ثم قال لي مدرّسُ التاريخ: في اللغةُ سموّ إذا اعتدل ميزانها، وإن للكلام مزاجاً، وللأشياء الميتة حياة أخرى في الكلمات. لكني هربتُ يوماً من النافذة، وخامر مهجتي لذة الشعور بالانفلات من صرامة العقل، ومن البحث عن الجدوى في الرسائل والسطور المتلاشية. سابقتُ قطاراً خرباً، وتجاوزته في الحال. قذفتُ حجراً في سكون البحيرة. كسرتُ غصناً أعوج، وصنعتُ مجدافاً كي أعبر الرمل. ومن أوراق شجرةٍ عملاقة، صنعتُ جناحين، وحلّقت بهما أبعد من الخيال.
اليوم، أقفُ عند عتبة السؤال نفسه. من أنا؟ ومن هو الحب إذا فتحتُ عينيّ، وأنتِ بعيدة في التمني؟ ثم إذا كسرتُ الباب وخرجتُ من غرفة الوهم نافضاً ثقل أيامي الماضية، هل تقترب روحي من احتمالكِ بين يديّ؟ وإلا كتبَ عليّ، مثل الهالكين، أن أشدّ عروقي كلها، وأبدأ بالركض أسرع من الريح قبل أن تقفلي بابكِ في وجه العاصفة؟
في القصيدة المكتوبة على صفحة الهواء الحرّ، أنت غيمة. لكن مليون ظلٍ ينتظرون مثلي هطول هذا المطر. وفي أغنية الصبر، أنت ناي الشفاه الحزينة. وفي ابتسامة الليل، أنتِ انفراج الضوء يشعُّ من عناق نجمين بعيدين ويكحّلُ عين المنتهى. نعم، هكذا سمعتُ الشعراء يلهجون بوصفكِ، وما وصفو إلا ظلالك. وأنا لا انتماء للخوف، وما يشدّني للحرية هو نيّة أن أطير، مرتفعاً عن الأرض شبراً على الأقل، وأن يكون لي في كل صحراءٍ مدى، وفي كل بحرٍ هدير. وأنتِ على الجهة المقابلة من ضفاف الأمل، تجلسين تحت نافورة الكلمات الشاردة، تسرّحين شعركِ بأغصان الغابة، وتنتظرين بزوغ الشمس من قلب رجلٍ حر.
جرياً على مذهب الحب العظيم، سنلتقي يوماً. ولا يهم المكان ولا الزمان. ولا البيت الذي سيحتضنُ هروبنا، ولا بابه الخشبي المخلوع. يكفي أننا نولدُ في الفكرة، ونطلقها في الكون مثل سحابة متلاشية. ويكفي أني رأيتكِ من نافذة قطار أُدركُ أنه لا يعود، ولا يصعدُ أو ينزلُ في محطاته أحد.