الثقافة مثل النهر، قوتها في صفائها وتأثيرها في زخم عطائها، وأشجار الحياة لا تنمو إلا بمستوى جريان النهر في عروقها، ولا ترقى الأمم إلا برسوخ ثقافتها وامتدادها باتجاه العالم، وتفرعها واخضرار أوراقها. في الإمارات، هُناك الوعي المتجذر في السقف الثقافي، وهناك الطموح بأن تكون الثقافة القوة الناعمة، ولسان البوح الجميل الذي يرسم صورة الوجدان الإماراتي، والاقتناع بأهمية أن يكون للكتاب مقعد في مجالس الحوار الإنساني، وأن يكون للمثقف حضور في منابر السرد، وما يداخله من قيم وشيم تضيء الفضاء بكلمة سواء تدحض الافتراء، وتجهض الهراء، وتمنع كل ما يفسد مجرى النهر، ويعكر صفاءه. اليوم لم تصبح الثقافة ترفاً وطنياً، أو اجتماعياً، ولم تضح تنفيساً عن ذات مكبوتة، بل هي تحريض حقيقي للذات كي تفرض وجوداً في الوجود، وتفتل خيوط الحياة، كي تصبح قماشة الحرير التي تضع نعومتها على الجسد الإنساني، فتمنحه الجمال، وتهبه حب الحياة، وتفتح للنفس قنوات بسعة المحيط باتجاه الآخر من دون رواسب أو شوائب. فعندما تصفو الثقافة، يصير النسيج البشري، مثل رقراق الماء، مثل أوراق التوت، مثل أشواق الطير، مثل أعناق الإبل مثل أحداق الغزلان. الإنسانية بحاجة إلى ثقافة تنقي الأفكار، وتصفي قاع البئر. الإنسانية بحاجة إلى ثقافة الانتشار السلمي للأفكار، ووعاؤها الحب، ومنطقها الطموح اللا منتهي لتحقيق السلام النفسي والطمأنينة، وكبح جماح النفس الأمارة، وتأثيث الأفئدة بسجادة الأحلام الزاهية، وتلوين السقوف ببياض الجبلة. لم تسقط الإمبراطورية الرومانية إلا عندما استبدلت فلسفة اليونان وإرثها الفكري العريق بثقافة القانون الإداري الجامد، لأنها بذلك خالفت قانون الحياة، ونحت الحياة عن الحياة، لتصبح تلك الإمبراطورية مجرد تمثال من الشمع لا قيمة لوجوده، سوى إنه يمثل مرحلة من مراحل تدهور الفكر البشري وانحسار الثقافة، لتبقى مجرد ظل لطائر عملاق، اختفى خلف أسوار رياح عاتية. الإمارات اليوم بحراكها الثقافي المبارك تمثل مشهداً من مشاهد الانبعاث الضوئي في فضاء العالم، وتقود المرحلة بتقانة ورزانة وأمانة، ما يجعلها تقف في مركز الدائرة تلبي مطلباً حياتياً، وترسخ قيم الحياة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ومعرض أبوظبي الدولي، يمثل هذا الدور المحوري الذي تقوم به بلادنا عن جدارة واقتدار وبفضل الدعم اللا محدود الذي تقدمه قيادتنا الرشيدة، وجهود الكادر الشبابي المتقد حرارة وحيوية. هذه الروافد الصافية، هي منابع الري لأشجارنا الثقافية. فشكراً لكل مجتهد محب.