ليت أجنحتي من ورق، ليت عشّي في كتاب. وهذه الجمرة التي اسمها الحقيقة كنزي، وهذا الطريق الذي بلا نهاية خيط في حذائي. ولدتُ بفمٍ عطشٍ للمعجزات، وما سقاني إلا كتاب السؤال، وما روى نهمي سوى أن ألوذ للكلمة، أقلّب بحرها بحثاً عن قطرة الغرق السامية. القطرة التي لو سقطت في حلكة العقل، استضاء بها الكون كله. مشيتُ بساقٍ ترتجف، وما وقفت على عتبة إلا تهدّم وهمها. وسيكون لزاماً أن يبعثرني الطريق إلى شتات، ويفطمُ مسلكي علوّ الجدار. وما من رسوٍ إلا إذا استقرت الخطوة في بياض كتاب، فيه أعود منفياً للجوهر المحض، عندما، قبل أن تُولد الكلمة، كانت الألسنُ نفح نورٍ، والأقلامُ أعمدة ضوء، والكتاب عرشها. وأنا، كي أغسل الحلكة من عروقي، لا بد أن أشرب المعنى، أن أنبش الصحراء التي اسمها الجهل، وأصطاد نبعي بين رعونة الوحش، ووعورة المسعى إليه. ذاهباً في كل صبحٍ إلى حفلة الحرف، لأرى بأم عيني كيف تصير بذرة الحرف كلمة، وتصير الكلمة شجرة يكفي أن ينام تحت ظلالها عطشى الحب كله. بيدين بالكاد ترتفعان، أدقُّ على بوابة الخلود، على الجبال التي أدارت ظهرها للشمس وألبستني حُجبي. كيف أشقّ نهراً بين النقيضين إلا بسطرٍ من نار؟ وكيف أعبر، وما من دليلٍ لروحي وقد شكّها الشكّ، وعثّر يقينها أن الكتاب بحر أضداد، وأن موجته تلذعُ حتى في سكونها. وأنا قاربي قشّة، ونجاتي أن أظل مرتطماً بالضباب حتى انقشاع سفورهِ. موقناً أن الكتاب، حتى لو كان كتاب صمت، هو درع المقذوف بالشظايا المارقة. وهو نفيٌ يليقُ بمن تجاسر أن يكسر القيد، وأن يحرر من قلبه غصّة الكلام كله. هانئاً نمتُ على شوكِه، غير مكترثٍ بدمي يجري حبرهُ نقطة نقطة. ناديته يا الكتاب: ها أنا أطفو على نتوء معنى، ها هو جرحُ الدلالة لا يداويه كيٌّ، ولا تطهّره النار. مر من فوق جسرك قبلي جيشُ أقلام تكسّرت. ورأيتك تُطوى تحت إبط الهاربين من قصف الأفكار المريضة. وحين قيل لنا في ساعة العبث إن المرايا أنتم، لم نصدّق وصايا الظلال، وجلسنا ننتظر بزوغ الحب من ضلعك، وصعد أطفالنا على ظهورنا لقطاف نثرك. وها نحن بسيفك، نشقُّ غبار الجهل كله.