تطل من شرفة نزلك على فضاء نهر موسكوف الوسيع، وتتأمل العبارات الفخمة، وهي تمخر عباب النهر بجرأة أهل روسيا في اختراق الحواجز، صوت الماء يتسرب إلى ذهنك ممتزجاً مع هديل الحمام النابش في أرض الله عن قمحة الحياة.
في الصباح يبدو النهر مثل كائن عملاق، يطوق المدينة بذراع يتدفق في عروقها ماء الحياة، فيمنح الموسكوفيين اليقظة والدفء.
شيء ما يختلج في رأسك وأنت تتأمل قماشة النهر، وهي ترسل رفرفات خفيفة، ومن خلالها تبرز أجنحة الطير وهي تتحرك مثل قصاصات ورقية بيضاء ناصعة. وبين حين وآخر تسمع صوتاً آخر يأتيك من سيارات الإسعاف، وكأنها تقول للسائرين في الشوارع، هكذا هي الحياة، أناس يأتون وآخرون يغادرون، كما هي النظريات والأفكار، تأتي الجديدة لتحيي العظام الرميم وتعبر بالناس إلى غدٍ أكثر إشراقاً، وموسكو اليوم ليست موسكو ما قبل التسعينيات، إنها الصوت المجلجل خفاقاً في فضاء العالم من غير أطر تعرقل العربة، كي لا تصل إلى نهر الحياة الشفيفة.
في اليوم التالي تقطع التذكرة على كراسي مخملية باذخة تتوسطها طاولة من خشب صنوبري مرونق باللون الأصفر الفاتح، تجلس أنت في أمان روسيا، وهدأة أجوائها، والنهر يحتضنك، مثل ذراعين سحريتين رهيبتين، ويملأك بغبطة تشعر أنك تستعيد طفولتك وأنت في أحضان الدفء، أنت في عالم روسيا الخرافي، أنت في أبدية اللحظة، الممتدة من أول النهر حتى آخره، أنت هنا تمر عبر التاريخ كما تمر الإبرة في ثنايا قماشة الحرير، أنت هنا تعبر النهر كما تعبر الفراشات وريقات الزهر.
في العبارة أجناس وأعراق من البشر يلتئمون في مكان واحد، وقاسمهم المشترك ابتسامة أرق من ماء النهر، وكلمة تخرج من طرفي شفتين، ربما لا تفهمها، لأنهم شعب لا يتكلم إلا بلغته، معتزاً بنفسه وحروفه الهجائية التي أيقظت فيه وعيه بعظمة بلاده.
هكذا يبدو لك النهر مثل جامعة ضخمة، يؤمها العالم من كل فج عميق، ويسكنون هذا المكان المتحرك، يأخذهم عبر النهر إلى الأقاصي، والأداني، وموسيقى خفيفة تتسرب إلى الأذان ومعها نسيم نهري خافت ملفع بوقاية باردة إلى حد ما.
ولا يخلو المكان من العشاق الذين التأم جمعهم عند زوايا حادة في العبارة، وهنا يبدو أن الأحلام تزهر، وتتألق، وتتدفق وتترونق، وترى في العيون خفقات ما في القلوب، ترى الوجدان الروسي يخرج من شرنقة الماضي إلى واحة الحاضر، وهو يلف لفيفه إلى واقع امتلأ بالأمنيات، ولم تزل تتوغل في الأعماق، كما هي الجداول التي تغذي نهر موسكوف.
رغم حشود الناس واكتظاظ المكان إلا أنك لا تجد عيناً ترصد، ولا أذناً تتلصص، فالكل مشغول بنفسه وليس بغيره، لا أحد يفكر في شؤون الآخرين، ولا أحد يهتم بماذا تفكر أنت، أو مع من تتحدث، أو إلى من ترسل رسالتك النصية. قيم جميلة وراقية تحتاجها الشعوب كي ترتقي، وتتطور، وتصل إلى العالمية.