بدا الأمر في غاية اللطف والرحمة. امرأة في منتصف الثلاثينيات بصحبة ثلاثة أطفال -يحمل كل واحد منهم كوب ماء بلاستيكياً- في طريقهم إلى ساحة أمام عمارتهم، حيث يجتمع سرب طيور يبدو أنه اعتاد المكان لشرب الماء والتقاط ما يتركه الناس له من فتات الخبز والأرز. سكب كل طفل ما يحمله من ماء في صحن عميق يبدو أنه متروك ليملأه الناس من وقت لآخر. في هذا المشهد الممتلئ بالإنسانية والرحمة، لا أستبعد إطلاقاً أن تلك السيدة التي أخذت تربت على رؤوس صغارها بفرح ممزوج بالفخر لأدائهم، كانت تحدثهم بوصية رسولنا صلى الله عليه وسلم: «في كل كبد رطبة أجرٌ» وتذكرهم بأهمية الرفق بالحيوانات والتلطف بها، وإطعامها والحنو عليها.
للأسف لم يكتمل الأمر بهذا اللطف الذي بدأ به؛ فقد شرع الصغار في إلقاء أكواب البلاستيك على الأرض بلا مبالاة، أثناء حديثهم وسيرهم مع والدتهم بعيدين عن المكان! كنت في مقهى ذي جدار زجاجي يطل على هذه الساحة؛ بدت القهوة للحظة شديدة المرارة، كما بدا المشهد برمته قاتماً، رغم وداعة الصغار وجمال الأم، وكل النوايا الطيبة التي غاص بها الموقف؛ وهذا لسبب قد لا يعبأ به أحد ولن يكترث له كثيرون، حتى وإن نبهتهم له.
«في كل كبد رطبة أجر» حديث شريف، ووصية لرسولنا الكريم وسبب لتحصيل الأجر، وهو ذات الحال في حديثه ووصيته «إماطة الأذى عن الطريق»؛ ففي ذلك أجر الصدقة وقرب من الله ورسوله، وفيه من الرحمة والرفق على الأرض وبكل ما يسير على هذه الأرض ويسكنها؛ غير أننا لا نتعامل بذات الحرص مع تلك الوصية.
أي نظافة يتطلع إليها رجل بالغ عاقل يقود سيارة لامعة وفارهة بكل رزانة، يقوم بفتح نافذته ملقياً كومة قاذورات في طريقه بكل جلف وبلا أي مبالاة؟! وأي جمال تبتغيه سيدة تصحح مسحوق تجميل وجهها ثم تلقي بالمحرمة، بينما سلة المهملات على امتداد ذراعها! أي أجر تنشده تلك الأم لصغارها من إطعام «كبد رطبة»، بينما الأرض بكل ما عليها تجف بسبب ما نفعله نحن البشر بها، وبما تعلمه هي لأطفالها دون أدنى وعي!؟