أيها البحر الحبيب الصديق، هل تعرف كم غبت أنا عنك؟ كم يوم مر ولم تتنفس رئتي لطف هواك وتنفس مرجانك؟ لم ألق عليك صباح الخير كي ينهض يومي من عتمته وكآبته ويصير شفيفاً وجميلاً مثل لمعان الفيروز بمائك؟ لم أتهادى فوق رمالك المنثورة كالسكر فوق شواطئك، حين نهاري يتثاءب من ضجري وأذوب في مائك، كالملح الذائب في عمق خفاياك وأسرارك.؟
أمس مساءً لم أهتف بك: فلتصبح موجاتك رائقة ونعاسي رهيفاً كي أحلم أنك مثل قريب منذور للنسيان، وفي الأحلام يلوح مثل شجى نورسة ولهى.
كم غبت أنا عنك، كم يوم مرَّ ولم تبعث حلزوناً يتأود في مشيته ويطرق بابي. يسأل عني يسأل وعن أسبابي. لم تبعث أصدافك أو مرجانك أو لؤلؤك أو حتى موجاً يتدحرج نحو بيتي في المرقاب. يا بحر الأبحار في لجة هذا الصمت وهذا النسيان، وحدك تعرف أنك حيناً مسكن روحي كالوطن الضالع في شرياني، وحيناً ذاك المأسور بمحنته كي يشبهني، وحيناً لا يبقى غيرك وجهاً أزليا يبتسم لي ويراوغني للإبحار بحثاً عن مرسى يحضنني من غربة تيهي ويواعدني كالطفلة بالحلوى، ويشد يدي من غربتها كي أبحر فيه.
أمس مررتُ قريباً لكن الطرقات كانت مغلقة بالأحجار وبالإسفلت وبالإسمنت، وبقصور شادتها رغبات الإنسان حين تشد عليه أحلام الترف وثاقها. فلم تأخذ بيدي وتدل خطاي على فيض الشاطئ الذي كان منثوراً تلهو به الأصداف والقواقع التي كنت أجمعها كرذاذ الفضة على جسدي. ولم تبعث بموجك يعبث بلهوي فأضحك وأرتعش من نشوتي به، كأن شفة الرمل تقبلني، وتهمس لي بغموض أسرارك. هل تذكر كيف تمرغت برملك ذات أسى وتنهدتُ : (أنا التي أضاعتني الأماني ولم تهدني السبل) فهمست لي كي لا يسمعنا الرمل: (هل مسّك جنٌ أم شتَّ بك خبل؟) قلتُ: (أي الوهاد إذن تفتحت لتحتوي وهجي، وأي موج علا روحي وأسلسني؟ أطرقتَ حيناً.. وهتفتَ: (يا صهوة الأمواج أرخي أعنتك هذي ربيبتك صهدت وناخ على أحلامها جبل).
الموج أرخى واحتفى فاعتليت هياجه. وانشق عن درب ودمدم.. وانداحت دوائره. فسررتَ لي: (ذوبي في أسيد الملح، ذوبي كي تصيري بعض أسراري) فعرفت أن الشعر بعض طبائع الجوهر. وسمعت نورسة نادت عليك من الأعالي: (غطِّ هذا الجسد الموغل في التيه والإبداع. غطهِ وانثر على أحلامه الفيروز واللؤلؤ!)
هل تعرف كم غبنا عنا؟ كم مر علينا من زمن لم نعرف فيه، كم نحن حبيبان وكم غبنا عنا؟!