ليس أجمل من رفقة أدباء وكتّاب وفنانين تجمعهم رحلة، وفِي مدينة استثنائية مثل باريس، بحيث تجد كل واحد يبحث عن مبتغاه، وفِي ذهنه صور متخيلة عن المدينة وروائح أمكنتها، وعن أبطال روايات، وقامات شعراء، ورسامين لونوا جدران المدينة، وغابوا تاركين ظلالهم وقصص فرحهم وشقائهم، تلك الرحلة التي ضمتنا في شتاء باريس القارس هذا العام، وسقوط ثلوجها المرحة والمشاغبة، كنّا سعداء بمنجز ثقافي في معرض باريس للكتاب بترجمة أدب الإمارات للفرنسية، غير أن المدينة استطاعت أن تسحب القادمين الجدد والمترددين وحتى المخلصين لها لشوارعها العامرة بالفن والثقافة وجمال العمارة، وكل الشقاء كذلك المطروح على جنبات طرقها، بعضها مختار، وبدافع الحرية المطلقة، والمتحررة حتى من جدران المنازل، وبعضها الآخر تحدّك عليه الحياة وقسوة ظروفها، تنازعت المدينة أجنحة الشعراء، وخطوات أقدام الروائيين، تقودهم الدهشة حين تتهامل مثل أسئلة جميلة لا تحبها أن تنقطع، ولا تريد أن تبحث لها عن إجابة، ويقودهم مطر الليل، ونواح «ساكسفون» وصدى لصوت «بياف» تسرّبه أبواب المقاهي التي تشبه بيوت الجيران من دفئها وحميميتها، منهم من قصد «نوتردام» يبحث عن أحدبها، وينصت لذلك الجرس الخرافي الذي تحمله تلك الكنيسة في قفص صدرها، ومنهم من حاذى شارع «أميل زولا» أو ساحة «فيكتور هيجو» متتبعاً أثر أبطال روايات وقصص طالما أشعلت ذاكرة الطفولة والقراءات المبكرة، وظلوا في قاع الذاكرة، واليوم يقومون من سحبهم الزرقاء التي كانت في الرأس، ومن أصدقاء الرحلة من تعنى قاصداً «ساحة مونمارت» حيث اللون هو الطاغي، والفرشاة المبللة بتعب العرق، ورجفة الأصابع، وما يجلبه العنب معصوراً حين يسكن قارورة في حقيبة جلدية لرسام، وضع كل المدينة وتفاصيلها في تلك الحقيبة، وما زال يمشي ويبكي ويغني، هناك.. في ذلك المكان الذي تعرت أشجاره، ولمعت أحجاره القديمة ضاع الأصدقاء، وبحث كل عن لوحته المفقودة، ولونه الضائع، أصدقاء الرحلة الصعاليك ممن يعرفون أماكن التنوير في المدينة، وضجيجها الثقافي، ذهبوا للحي اللاتيني، ولَم يفوتوا عرض مسرح «أوشيت» حيث تعرض مسرحيتا «المغنية الصلعاء» و«الدرس» منذ سبعين عاماً، وليتلذذوا بطعام تقليدي بعد العرض المسرحي من «الفاندو» أو «الكريك»، متسكعين في ليل ذاك الحي الذي عرفه جلهم من رواية «سهيل أدريس» «الحي اللاتيني»، أما النخبويون من الأصدقاء فكان متحف «اللوفر» وبيت المثّال «رودان» ومتاحف باريس هي ملاذهم في تلك الرحلة التي مضت أيامها متسارعة من دون أن ندري.