إذا عبرت النهر نفسه مرتين، فأنت غريقهُ. وإذا خلعت قميصك ولبست معطف موجةٍ، فأنت فم البحر، ولسانه العذب في ساعة الترحال، وحنينهُ الرابض على رمل السواحل المشتاقة. حدّق في المسافة، وسترى أن جذورها تنبعُ من قدميك العاريتين. وستدرك أن خطوتك الأولى تبدأ أولاً في العقل، عندما يباغتك حلم الخروج من خدر الدائرة الضيقة، وحلم أن تلبس يوماً حذاء الحديد لتركل به القنافذ التي التصقت بقدميك، وترفس به الأبواب الألف التي أوصدت علناً بوجهك. وإن أنت أمعنت النظر عميقاً في الأشياء، ستُدركُ أن الخواء هو جوهر ما تظنه أنت المادة الصلبة. وأنك، مثل أي صخرة، مجرد تمثالٍ، إن تجرّأ يوماً على المشي، تكسّر. وإن بقي في مكانه، بصقت عليه الطيور في ذهابها وإيابها. ولا ملاذ لحريتك إلا أن ترى نفسك روحاً مسافرة، وأن تسكن الفكرة التي عصيٌّ على فم اللغاتِ نُطقها. منتمياً إلى الاتساع في المطلق، وكأن الكون كله محشور في رحابة صدرك، وفي تنفّس رئتيك.
ماذا سيحدث، لو مسحتَ زجاج الذكريات بأكمام بدلتك الجديدة؟ هل سيتغير الماضي وتلمعُ فيه صورتك طفلاً ناصعاً ونقياً؟ وأنت الذي حبوت أوّل ما حبوت على شوكٍ نافرٍ كي لا تبتعد خطاك عن وهم الأمان. وأنت الذي مشيت أوّل ما مشيت على جسر نارٍ، والنافخون على جمرهِ من كلا الجانبين هذا يصيحُ بك: لا، وذاك يمعُن في النواهي. ثم رأيناكَ تكبر أطول من لسان الخوف، وشهدنا خروجك ممزقاً من بين الأسلاك الشائكة وفي يدك لا يزالُ سؤالك: من أنا؟ بعدها خرج الحكماء من الكتب القديمة وغطّسوك في حبرها، فنَبَتتْ على زنديك أجنحة الخيال، وصار بإمكانك الآن أن تسبح بين الأكوان، لعل كشفاً يفككُ في عينيك لغزها. ولعلك تصل يوماً الى مزار رؤاك.
وماذا سيحدث، إذا حاصرك القضاةُ بتهمة انتمائك للوضوح؟ هل ستفتحُ لهم قلبك، وترفعهُ قمراً يقشعُ من عيونهم عتمة الجهل؟ هل ستدلّ الأطفال الى المنابع البكر كي يغسلوا براءتهم من صيحات الأوامر والمحاذير؟ لا أحد يمتلك الحقيقة للأبد. وما تظنه اليومَ فحوى، يصير غداً بقايا فقاعة تفقسُ في يدك، ويُغشي بصيرتك فراغها. تعال إذن الى ذاتك ولا تطلب اللجوء حتى لمراياك. لأنك في الحقيقة مجردُ وعيٍ سابحٍ في أفقِ وعي، وليس للوعي من شكلٍ، أو ملامح، أو ظلال.