رسوّكَ على برّ الأمان، لا يعني وصولك للمنتهى. فما أن تطأ أقدامك رمل المنافي البعيدة، حتى يباغتك غُبارها في العينين. وحين تخلدُ للنوم تحت شجرة الظلال الجرداء، سترى الذكريات تحاصرك من الجهات الأربع، ولا فرار لك منها حتى لو التحفت بالنسيان. ذلك لأن الخلاص الذي كنت تفتّش عنه، والسلام الذي ظننته يكون مظلتك الأخيرة، مجردُ وهمٍ لمن وهِنت روحهُ وتسرّب اليأسُ إلى معانيه. ولن تجد الطمأنينة يوماً إلا أذا جلست وجهاً لوجه أمام الحقيقة التي كنت تهرب منها. أمام الأسئلة التي ظلت تضجُّ في أعماق ذاتك، وأنت تتغافل عن وخزها، وتشيحُ بوجهك عنها. وعليك أن تُصغي عميقاً إلى ما يريده قلبك، إلى الصوت الذي يخاطبك في سرّك كل ساعةٍ وكل حينٍ، لكنك تتلفتُ يميناً وشمالاً، بحثاً عن إجابات مؤقتة من خارج ذاتك، مستسلماً إلى التلقين الذي يعطّل العقل، ويقودك لا محالة إلى مرتبة الخواء. ولن يكون مستغرباً أن تفتّش عن معنى وجودك ولا تراه، لأنك تبحثُ عن الجوهر في الزائل، وتنقّبُ عن ذهب اليقين في حظائر الشك، وتزرعُ بذرة الخلود في تربةٍ فانية.
تعال إلى حقيقة ذاتك من بابها الأصلي وادخل جنة القانعين بالتخلّي، الموقنين بأن التشبّث والتعلّق بما يفنى، هو أسُّ الجهل الذي يحاصر الموهوم ويجعله ضارياً في الخصومة. والجهلُ هو الوجه الحقيقي للشر الذي عليك أن تصارعه من داخل ذاتك أولاً، وأن تظل تهزمه كلما تجاسر على الكراهية، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن تعتنق الحب درباً ومنهجاً وكرامة حياة. وكي تهزم الشر، عليك أن تبدأ بالكلمة بأن تطهّرها في قلبك، وتغسلها بماء الصدق ثم تُطلقها جناحاً في رحابة تعاملك مع الناس. ثم عليك أن تراقب الفكرة التي تنبعُ أولاً في العقل ثم تصير سلوكاً وفعلاً. وإذا ما غسلت أفكارك بالنور، فان الجانب المعتم من روحك سوف يتطهر إلى الأبد من ترسبات ماضيك، من الندم وبقاياه، ومن الخوف وخيوطه الواهنة التي تقيّدك. وسوف تشرقُ من بعدها حراً في التعامل مع الحياة كشاهد على روعتها الدائمة.
الحبُّ ليس مشاعر تكنّها سراً لبشرٍ دون غيرهم، بل هو نفحةُ ضوء تبثها بكل ما تستطيع إلى قلب العالم وروحه، إلى الوجود في كافة تجلياته، حتى لا تعود ترى الفرق بين النقيضين، لأن جميع الظواهر والأشياء تحت مجهر الحب سواسية.