في ذاك اليوم رافقتنا السعادة، وكانت لي فرحة الفُرجة على السعادة حين يرسلها الآخر لك، هكذا فعلت صديقتنا المترجمة ودليلنا السياحي، وهي تجوس بنا ديارها القديمة مرتع طفولتها، وتحسسها للأشياء التي كانت حاضرة، توقفت عند شجرة كبيرة، وقالت: هذه الشجرة كانت كبيرة، واليوم صارت أعظم، لقد شاخت مثلما شاخت أشياء كثيرة في مدينتي تركستان، لم تبق إلا تلك الروائح العابقة بمسك الماضي، ودعت مدينتها بعد أن مررنا بسوقها، وبأشخاص كانوا عالقين في ذاكرتها الطفولية، واليوم تبدلت هيئاتهم، وكان للوقت بصمته على وجوههم، وحدها قلوبهم ظلت كما هي.
تلك التجربة قادتني لأكررها مع صديقة أخرى في مدينة أخرى، كان ذاك في صيف جزائري محض، فهذا البلد الجميل والمترامي الأطراف فيه كل مؤهلات السياحة العالمية، غير أنه يحتاج إلى اهتمام، وتقديم خدمات كثيرة لكي يكون منطقة جاذبة للسياح من كل أطراف العالم، فالتاريخ هنا، والشواطئ الخلابة هنا، والتراث والإرث الثقافي المتنوع هنا، ويمكنك أن تجد البحر والجبل والصحراء والسهول هنا، وهو بلد يمكنه أن تجد جهات العالم قريبة منك، ويوصلك لها بسهولة قصر المسافات، لكن قد تخونك الوسيلة.
قادتنا الخطى إلى قاع العاصمة القديمة، إلى وادي قريش، وحي بوفريزي، حيث كانت المدرسة الأولى «حمدان بن خوجه»، كانت السعادة تسبقها، وتجاري خطوات الطفلة المتسرعة بحقيبتها لكي تلحق بصديقات صفها، متذكرة طرقاً ماطرة في صباح باكر أو ظل غيمة تتبعهن وهن راجعات قبل المساء، بعدها أخذتني إلى القصبة تلك البقعة الضاجة بالناس والأحداث والتفاصيل الكثيرة، حيث المدرسة الثانوية «عقبة بن نافع»، كانت تتحدث عن أجمل فترات العمر، وأجمل الذكريات، وأجمل الأشياء العالقة في النفس، دكان بائع الحلوى «قلب اللوز»، المخبز الذي يقدم «المسمن والمحاجب وقراناطيطا» تشهت بعمق تلك المخبوزات والعجائن الساخنة والتي تلهب يدي الصبية، وتتقاسمها مع زميلاتها، قد يتفيأن ظلال شجرة قبل الصعود على درج إلى باب الواد، ثمة محال ودكاكين صغيرة غادرت مكانها، وحلّ بدلاً عنها محل هواتف برّاق أو بوتيك يستورد أشياءه المقلدة من الصين وتركيا، سألت عن «العم رابح» وعن «الخالة بهيجة»، عن محل القصابة، وعن مقهى كان يجلس فيه أبوها، عن جيران الأمس، لم يعد أحد يتذكر من الجيل الجديد، كيف عاش الجيل القديم، وحين تسأل عن دار الجد الكبير، يتذكر الشباب، ويدلونها على مكان عفر عليه الزمن، وحدها الأشجار التي تحيط به تسامقت وكبرت، محافظة على روح المكان، كانت رحلة جميلة من خلال عيون الآخرين، غسلت القلب من الداخل، وضمنته سعادة بالغة، تمنيتها أن تدوم.