دأبنا في عصر الانغلاق أن يقف المثقف في برج عاجي، مصفد بمصطلحات لوغاريتمية فجة وعقيمة وسقيمة، يخاطب نفسه ويحاكي الغيمة الطائشة، وأن يذهب مذهب البوذي المعتصم في صومعة الانعزال، وبوتقة الهزال الروحي بحيث لا يسمع ولا يرى ولا يلمس إلا خياله المجرد، كما أن الإعلامي الذي يقف في الجهة المضادة، يرى نفسه في منأى عن العلاقة مع كائن يجد فيه البقعة السوداء التي لا يرى من خلالها إلا عتمة الوجود. هذه القطيعة، وهذا البؤس في التلاقي، أوجد حالة من الفراغ المريع، ما أشاع حكاية وهمية بأن ما بين المثقف والإعلامي كالعلاقة ما بين النهر والبحر، والعلاقة ما بين الأسود والأبيض، والعلاقة ما بين الصيف والشتاء، والخريف والربيع، والغابة والصحراء، والحلم والكابوس، والسعادة والشقاء، والحب والكراهية. هذا الحاجز الوهمي صنعته ثقافة الانحياز وخطاب الأنا المتورمة، والعقل المأزوم بالمضائق والحقائق المصادرة، واللامعقول المكرس من أجل صناعة مجتمعات، أعمدة خيماتها بالرميم وأزمة الفقدان. اليوم العالم تقوده الفكرة، وكل ما يحدث على أرض الواقع الإنساني، هو نتيجة هذه الفكرة المتوترة المحاصرة بالوهم، والمستولى عليها من جهة الأنا المعزولة عن الحياة. من خلال هذا التفتت، وجدت خلايا الظلام فرصتها في التسلل والتسلق والتوسل والانغماس في نخاع المجتمعات، مستفيدة من عقدة الفراق ما بين المثقف والإعلامي، ولو فهم الطرفان أنهما رافدان لنهر واحد، وأنه لا مجال لسد القنوات، وأن كبح أحدهما يغرق العالم بأزمة ضيق التنفس، فالإعلامي قناة توصيل، والمثقف حامل التيار الكهربائي، فعطب أحدهما يعني إصابة العالم بالعمى. ما يحدث في العالم العربي هو من هذا القبيل، ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا ولوج النهر من دون رواسب حتى لا تتلوث مياهه بالنفايات، وحتى لا تبدو الحياة مجرد تراكم للغيوم السوداء. المثقف له دور، والإعلامي له دور، وكلاهما من صلب واحد، التخلي عن الدور الجوهري، وهو النهوض بقيم المجتمع أدى إلى هذا الانحلال في المبادئ الأساسية، وأهمها محاربة الفكر السوداوي، وإجهاض مشروعه العدمي وكبح طموحاته العبثية. نحن بحاجة إلى إماطة اللثام عن وجوهنا، وأن نذهب إلى الحياة بوجوه عارية من الأقنعة وزيف مراحل ما بعد الفراغ، نحن بحاجة إلى مثقف يعرف أن دوره هو الدفاع عن منجزاته الوطنية، كما أننا بحاجة إلى إعلامي لا يحجز المياه عن أشجار الحب، وأن يعي أن دوره هو الانسجام مع الحياة، وأولها هو الإيمان أن الإعلامي هو أيضاً مثقف، ودوره لا يتوقف عند تحرير الخبر أو نقل المعلومة، هو في الأساس قلم الوطن الذي يرسم الصورة المثلى للحكاية من أولها وآخرها. الطرفان تقع على عاتقهما مسؤولية النجاح أو الفشل لمشاريعنا الوطنية.