هذا الصيف تهيأت لي تجربتان في معنى الحنين، الحنين الذي يمكن أن تراه عيناك في عيون الآخرين، وتستشعر بتلك الرائحة التي تدخل فجأة في نفوسهم، كيف هو طعمه الحلو الذي يشعرك بالشبع، ويشعر رئتيك بذلك الارتياح والتنفس بعمق، تجربة نوع من السعادة يهديها لك الآخرون بالتساوي مع أنفسهم، فتكون الفرحة فرحتين.
تجربة أولى كانت في مدينة تركستان التاريخية في أوزبكستان حين رافقتنا صديقة ومترجمة ودليل سياحي إلى مسقط رأسها، فجأة اكتشفت أن البعد الزمني قد يقتل الأشياء في المكان، وقد يميت أشياء في النفس، لكن في لحظة أول لقاء تجد الأشياء فجأة تنهض من مكامنها، وتجد نفسك تشتعل من الداخل باعثة أشياء كانت منسية في قفص الصدر.
قلت لصديقتنا ومرافقتنا، والتي يعني اسمها الضوء المبهر: أريد أن أرى المدينة التاريخية، وأريد أن أرى أسواقها وقلاعها ومساجدها، وأضرحة أوليائها، لكن ما يهمني أكثر، ويسعدني أكثر، أن أرى مدينتك من خلال عيون الطفولة التي عشتها هنا، فقط أذهب إلى المنزل الأول، حيث تبصرة نور الحياة، والخروج من لزوجة الظلمة الزرقاء، قالت: في ذاك المنزل، ما زال هناك جد وجدة يهرمان ببطء فيه، ولم أرهما منذ سنوات، ومنذ أكلت مني العاصمة وعملها، قلت لنلقي عليهما السلام، وبرد التحية، ولتفاجئيهما بتلك الفرحة الغائبة، ولتدخلي عليهما كما كنت تفعلين حين ترجعين من المدرسة، ولا تفعليها من دون هدية، فالكبار يفرحون مثل الصغار بالهدايا المباغتة والمجانية، وليتك تشاركينهما عشاءهما، وليتك تفرحيني بما يقصون عليك من حكاياتهما المُخَزّنة، والمُدّخرة ربما لابنتهما التي ودعتهما بعد انقضاء الثانوية، هرباً بشبابها باتجاه تعليمها الجامعي.
كانت فرحة اللقاء وسعادته تدخل في قلبي كشربة ماء بارد بعد حرقة العطش، كما فعلت في قلوبهم، وكما فعل الدفء حين تلاقت الأحضان، ليس أجمل من أن تغزل موعداً لحفيد بجده أو تذكّر بنتاً بقيمة جدتها التي تنتظرها في زاويتها العابقة بروائح زمنها الجميل.
تجربة معنى الحنين وفعل السعادة بالإنابة أمر جميل، ويجعلك تتزود بطاقة مهولة لا تعرف كيف تصرفها، بعد وداع المنزل الأول ودفء الجد والجدة، انطلقنا إلى المدرسة الأولى، وكيف سرقت من عينيها بريقاً كان يشع براءة وعفوية وهي تتذكر صديقات الأمس، وكيف تقاسمتهن جهات الدنيا ومسائل الحياة، وربما تذكرت في صمت كيف شبّت حتى ضاق بها القميص المدرسي الأبيض.. وغداً نكمل.