في ذلك الزمان غير البعيد كانت تتراءى لنا قلعة المربعة من بيوت الحارة، كان لا يجاورها إلا نخيل من بعيد، كانت الأرض فضاء، وسيح طلق، يأتي من يحتطب فيه، ومن يحرق «الصخام»، وحين يهجم الجراد، يهرع الناس لملاقاته عند تلك القلعة، لكي لا يدخل المدينة، يشعلون النيران، ويجنونه في أكياس الرز أو قوس التمر المصنوعة من سعف النخل أو ما يحمل إزار الرجل على ظهره أو رأسه، كانت غير بعيد عنها شجرة غاف كبيرة ستشهد على المحكومين عليهم بجرم عظيم، وكانوا قليلاً، لا يتعدون الأصابع إلى الخنصر، وغير بعيد عنها سوق العين القديم، وقلعة الحصن، اليوم مرّ على بنائها سبعون عاماً بعد ما أمر المغفور له الشيخ زايد طيّب الله ثراه، بإقامتها لتخدم الناس، وكان البناؤون من الناس المحليين، تفازعوا كعادة ذاك الزمن الجميل، أحد يسوق الحصا، وأحد يجلب الجص، وآخر يهيل التراب، وآخر يعمل «اللغيغة» ليصنع طابوقاً من الطين، ومن «يزفن الزور والدعون»، ومن يصلح المعاريض، ومن يجلد الحبال، حتى اكتملت بلون تراب العين، من يومها ستكون مركزاً لما سيعرف فيما بعد بشرطة أبوظبي، في البداية كانت تضم حرّاساً من أهل الدار كانوا يتولون الحراسة والمراقبة وحفظ الأمن، والذين انضم جلهم فيما بعد إما للشرطة أو قوة دفاع أبوظبي، وبعضهم خدم في «قوات ساحل عُمان أو الساحل المتصالح»، كبرت المربعة، بعدما كبرت المدينة، وأصبحت فيها قوات نظامية، ثم غدت مركزاً مهماً للشرطة والمرور، وكثير من جيلي أخذوا رخص السوق من ذلك «التراي» الصعب عندها، وخاصة ذلك المطلاع الذي على السائق الجديد أن يجتازه، ويتوقف في منتصفه دون مكابح القدم أو اليد. مرّ على المربعة كمركز للشرطة كثيرون، لعل المغفور له الشيخ مبارك بن محمد أولهم، والمغفور له حمودة بن علي، والمغفور له الشيخ أحمد بن مبارك، وحمد بوقطعة، وسهيل بالكاز، وحمد سعيد الحساني وسالم التاجر، وكثير من الأفراد من أهل الدار. تأتي هذه الاحتفائية الثانية هذا العام، وسط عام زايد الباني والمؤسس، ومرور سبعين عاماً على إنشائها، وهي مناسبة أن يتعرف الناس على شطر من تاريخ المكان الذي كان شاهداً على الزمان. تعد قلعة المربعة آخر القلاع التي بنيت عام 1948، وهي تمثل المعمار المحلي بكل بساطته، وبكل منافعه التي بني من أجلها، وكنت محظوظاً أنني وثّقت أقوال بعض من بقي من بناة هذه القلعة، والتي ضمّنتها في فيلمي الوثائقي «في سيرة الماء.. وَالنَّخْل والأهل»، لكي لا تفلت الأشياء من بين أيدينا، فعجلة الزمن سريعة، ومن بقي من الكبار الأولين تساقطوا واحداً تلو آخر، بعد أن طوي الكثير منهم النسيان، وظلوا وحدهم يتذاكرون حكايات ذاك الوطر الجميل، وحكايا ناسه الطيبين.