من يقرأ السياسة التركية، يعيش كمن يصادم التيارات الهوائية، وكمن يقف على حافة جرف هار. تركيا التي كانت بثوب فضفاض، وتزحف باتجاه أوروبا سعياً وراء الرضى، وطلب المغفرة عن ذنب تاريخي، ملطخ بدماء فكر إخواني قديم قام على أسس إمبراطورية الشر، وسلاطين البغي والطغيان. وقد انبطحت تركيا تحت الأقدام، لاحسة نفايات تاريخها، بتقديم صكوك الغفران لمن لا تشطب ذاكرتهم الأخطاء التاريخية، مهما بلغ بالمسيء من إذعان، وخذلان، وركوع وخضوع، لأن الفكر الأوروبي القائم على البراجماتية، لا تخدعه الصور الخيالية، ولا أحلام ما قبل النوم إنه فكر فولتير المراوغ الصعب، وفرويد العالم بما يبطنه اللاشعور، وما تخبئه الأنا من نوازع أعتى من باطنية أردوغان، ومدرسته التي لم تزل تدرس الخضوع، ثم فتح الفكين لالتهام الضحية.
اليوم وبعد حين من الدهر، يخرج أردوغان عن الطاعة، محتدماً بتطلعات تنافي وضعه وقدراته وإمكانيات بلاده، ليقول للعالم الغربي لقد شب الفرخ عن الطوق، وأصبحت له مخالب وأنياب، ويستطيع أن يدخل الغابة منفرداً تدعمه إرادة القوة المدعاة والمزيفين، ولكن أردوغان لم يقطع الحبل بالكامل، فلا يزال يسحب طرفاً ويرخي طرفاً، وما بين الطرفين تبدو الهوية التركية مثل النعجة (دوللي) مأزومة الهوية فلا هي في الطبيعة، ولا هي خارجها إنها ما بين، بين، فهو يهدد تارة، وتارة يثني الرأس، ويتحدث عن ارتباطه الوثيق بالناتو، ولكنه بشرط أن يترك له الحبل على الغارب ويرتمي في أحضان من يريد متى أراد، ولا داعي لقلق الآخرين.
يبدو لي أن تركيا اليوم في عصر أردوغان مثل الطفل الذي يريد حضن أمه، ولكن لعابه يسيل لحليب أخرى، إنه يتحرك على أرجوحة النزعتين، ويمتطي ظهر العنجهية الموروثة عن أسلاف مضوا حياة شعوب بأكملها بسيوف الجهل والقتل والتشريد، وليست مأساة الشعب الأرمني ببعيدة.
هذه اللعبة التاريخية لا يبدو لها من استمرارية، كون العالم تحكمه قوانين الانتماء ومعايير الهوية التي لا تقبل التلوين، ولا تقبل مساحيق التجميل، والتهديد بعقوبات مقابل العقوبات، لن يجدي نفعاً أمام عالم تحكمه قوة الإرادات ولا هوة اللحظات الأخيرة.
أردوغان أراد أن يجمع العشيق والزوج تحت سقف واحد وهذا ما لا يمكن حدوثه في فكر كاثوليكي غربي واحدي الحياة الزوجية، وفكر أرثوذكسي له مخالب الدب الثلجي. ستستمر المراوغة، ولكن الكبار عندما يداعبون، فإنما هم يداعبون لأجل انتهاء اللحظة الأخيرة.