هي خالتي، وصفيَّة العمر.. نشأنا معاً، ونسجنا أحلامنا الفتية معاً، وحرسناها بالأمل والطموح الذي تهشم على تروس الواقع وصرامة التقاليد. هي ذات نزوع مرهف، وروح متوثبة طلقة. وظلت ترتجل الشعر وتدونه أحياناً طوال كل السنين باللهجة المحكية. تنساب القصيدة بين شفتيها كأنها دفق الروح وهمس الغصن وتردد النبض ورهافة الانتباه إلى ما يحيط بها من مشاهد وأحداث. واتسمت قصائدها في الأغلب بروح التهكم حيناً والمفارقات والهجاء والاحتفاء بالحياة والفرح والجمال.
تذهلني دوماً قدرتها على التدفق الشعري، وعفوية الوصف والتقاط الصورة والمفارقة والتضاد بين حالين أو مشهدين. تدفق ارتجالي لا تحتاج معه إلى جهد أو ورق أو بحث عن المفردة أو الصورة.. موهبة فطرية تميز بها الشعراء منذ القدم وقبل نشوء الكتابة ومعاجم اللغة المؤبدة، الشعر عندها حديث عفوي يمزج العقل بالروح والسر بالوضوح والفن بالفطرة. تلك الفطرة التي لا تبحث عن مجد ولا توظف الشعر، ولا تسعى به لكسب الشهرة أو للتباهي. لم تنشر قصائدها قط، ولم تسع للنشر على صفحات الصحف التي تمتلئ بقصائد النبط أو المحكي يومياً. لا أحد يعرفها سوى أبنائها، وسواي وبعض أفراد العائلة التي تستنجد بها في مناسبة فرح لقريب أو صديقة حميمة. وهي امرأة ناعمة كأنها نسمة، ضاحكة كأنها الخرير، ورهيفة كأنها بتلة وردة. يعجب من يراها أن تكون أماً لثمانية أغلبهم تزوجوا وأنجبوا، فالزمن يمر خجلاً متوارياً ساحباً ظلاً رهيفاً على ملامحها، كأنه يخجل أن يحفر أزميله المعتاد على امرأة أبدعتها الحياة والطبيعة كي تظل صبية تختزل الأمومة وتترنم بالشعر.
ولعلني أعرف سبب هذه الموهبة؛ فقد ورثتها من والدها صاحب الأصابع المبدعة حين يصهر الذهب في بوتقة النار ليحيله إلى فن نادر النقش والجمال. وخالتي تسبك قصائدها من منابع الحياة والمعيش اليومي وحكمة العمر دون مرجعيات الكتب وخلفية الثقافة التي نعرفها اليوم، فبين الشعر والإنسان علاقة فطرية. وحين أستمع إليها حين تزورني وتسمعني آخر قصيدة لها بصوتها العذب، أدرك معنى أن يولد الإنسان شاعراً، وأن يستشعر العمق واللذة والفرح الصافي حين يغني الحياة أو يحاورها بهذا الفن السحري الذي يشبه تعاويذ النساك وهمهمات الكون الخفية، ناسجاً بينها وبينه تلك العلاقة الرهيفة والصلبة. وذلك الحبل السري الذي لا يقطعه حتى الموت!