الحنين إلى الماضي.. هل هو توق لطفولة الحياة الفتية؟ لسنوات الشباب والتوقد والحماس ونضارة الروح، أم أن الحنين إلى الماضي هو فرار وهمي من زمن أسن ماؤه ولم تجدد السماء فصوله. وواقع مثقل بالخيبات والهزائم، انكسرت قوادم أحلامه، كما يقول صلاح عبدالصبور. وتقزمت فيه الطموحات حتى باتت ضئيلة، ضيقة، محدودة بالآني والفردي والمادي، ورخصت فيه قامات البشر حد التسلع. واقع اتسخ بالحروب العرقية والطائفية والأطماع والأحقاد، وإثراء القلة على حساب الكثرة التي تتضور من الجوع، الأوبئة والانسحاق. أقول هذا وأنا أقلب صفحات عتيقة من مجلات ثقافية احتفظت بها تعود تواريخ صدورها إلى ما قبل ثلاثين عاماً أو تزيد: مجلة الأقلام، آفاق، الطليعة الأدبية، مجلة الفكر المعاصر، مجلة الآداب، مجلة شعر، النهار العربي والدولي. ولم يكن الاصفرار والتقصف الذي لحق بأوراقها، والاهتراءات التي فتتت أغلفتها من أثر التخزين طويل الأمد، وحده، بل من اندثار الثقافة التي تشع بالإبداع والأمل والرؤى. أبحاث ومقالات في نقد القصة والشعر والفنون التشكيلية والمسرح والسينما، والسياسة والمجتمع والاقتصاد. قصائد تشف عن موهبة وثقافة ورؤية، صار شعراؤها علامات بارزة في مسار الحركة الشعرية العربية. قصص قصيرة لروائيين ما زالت أسماؤهم ترن كدينار الذهب، حين كان الذهب يشمخ كقياس للثراء، واحتياط للغوائل، وقبل أن يتعملق عليه الورق ذو النقوش الملونة، سيد العالم اليوم، ومظلته، وطموح بشره. أين ذهب كل ذلك؟ أين ذهبت الأحلام والطموحات، الرؤية المستنيرة، والآراء الشجاعة المبصرة؟ أين ذهب الناس، وإلى أي منقلب انقلبوا؟ لماذا حمل الناس رقيبهم كصك غفران، إنْ همسوا في سريرتهم، أو فكروا في بواطن أدمغتهم؟ لماذا انقلبت الكلمات والدلالات والرموز والإشارات والأفكار والغايات على نفسها، فصارت تسفه ذاتها الأولى، وتسمها بالتخلف والسكونية، لتعلي ذاتها الثانية، وتسمها بالمرونة ومجاراة التحولات، ومواكبة العصر، لتصبح الكرامة تصلباً، والشجاعة تهوراً، والرأي الحر تطرفاً، وثقافة الشعوب فلكلوراً، والتراث الفكري سلفية، والتواطؤ تحالفاً. وتصبح العولمة هي المنارة الوحيدة التي تشع بالرفاه والتحضر، وتعد الحالمين بالنزوح إلى الكواكب البعيدة، تاركة الأرض تؤول في فوضاها إلى الدمار؟!