بعد صلاة الضحى التي دأبت على أدائها كسنّة من سنن الرسول، تجلس خالتي فاطمة التي احتضنت الأبناء والأحفاد في غربة لم تختَرها، غربة لم تكن إلا مصادفة وصارت مصيراً. تجلس في ركنها المعتاد من الغرفة قرب النافذة، التماساً لضوء يعينها على صنع البراقع وخياطتها بالدقة والإتقان. تتناول قفة البراقع التي تخبئها عادة تحت السرير، وتبدأ في تفحصها وصقل قماشها الأسود المشمّع على لوح خشبي بقوقعة كبيرة ملساء، لإظهار بريق القماش وسحق نتوءات الخياطة حتى يصبح البرقع أملس لا يؤذي الوجه الذي يرتديه. وحين تبدأ بخياطة البراقع بإبرتها الناعمة ذات الرأس المطلي باللون الذهبي والثقب الموغل في الصغر.. في هذا الوقت وفي لحظات الاستغراق في الخياطة، في هدأة الضحى وانشغال أخواتها بترتيب أمور البيت، يعلو صوتها بغناء شجي. يرنُّ كـ (طاسة البترو). ونّات تتلوّن إيقاعاتها بين ارتفاع وانخفاض ومد قصير في الشطر الأول من القصيدة، يستطيل في نهاية الشطر الثاني ويستدير ليلتقي ببداية البيت الثاني.. ثم يتدرج في شجن عميق يتخلله إيقاع دون كلام، كأنه الآهة تمتد لحناً ينبعث من أعماق الروح والذاكرة، حاملاً في تلوُّنه صور الكثبان الرملية في استداراتها وعلوّها وانحداراتها في صحارى الإمارات وتلالها الرملية، عابقاً برائحة الصيف وأشجار «الغاف» و«السمر»، حين كانت العائلة تخرج للاصطياف (المقايظ) على ظهور الجمال عابرة بهم الصحارى والوديان إلى البريمي، أو رأس الخيمة أو مسافي وحتى الباطنة في عمان. كان في صوتها حنين فادح وشجن يعتصر القلب ويملأ الخلايا بالدمع. حنين الغريب الذي طوّحت به الأقدار بعيداً عن الوطن، عن الأحبة ورفاق الطفولة والصبا. عن الأحلام معجونة برائحة التراب الأول وذاكرة الأشياء والتفاصيل والعلاقات والعادات واللهجة الخاصة التي تعبّر عن خصوصية المكان. ورائحة الهواء ومذاق الماء. وتبدأ بالغناء: البارحة ونّيت من ضيج/‏‏‏ حاشا ولا يعلم بي إنسان والغالي دروبه مغاليج/‏‏‏ رسمه على لفاد سكّان ظامي ويفرح بالتهريج/‏‏‏ ويحوم قلب دوم عطشان على الفلي مروا مطاريج/‏‏‏ أهل الهوى قادوا بالاظعان ع ظهور دلعات الخنانيج/‏‏‏ والحيد لي مر به خالان ناجل حملهم والمعاليج/‏‏‏ سعنين والركيب دجران حين ينقطع صوت خالتي عن ترديد الونّات، ويغرق أفراده في صمت موجع يجترون تفاصيل حياتهم في الوطن الأم. تنتقل إلى لون أخف وطأة على النفس: يا زين حبك ما تحول/‏‏‏ ولا سكن ميراك مضنون خلنا نتراجع مقل لول/‏‏‏ واللي سلف هذاك مكنون