لقد مرت اللهجة المحلية بمراحل مختلفة من العطاء والإثراء والجفاء، ولا شك أن الشعراء المجيدين هم من رفدها، وكان لانتشار الفنانين المحليين من مغنين ساعدها على البقاء في صدور المحبين، لكنها في بداية الألفية الثالثة تاهت بين إنجليزية تسيطر على السوق، وتفرض نفسها في المدارس والبنوك وعلى الاستعمال المشترك بين جاليات في مجتمعنا تصل إلى 204 جنسيات، وعربية خالصة مغيبة عن حتى الاستعمال اليومي في كافة القطاعات، و«لغة شارع مكسرة» بدأت تحل محلها ضمن اتفاق مسكوت عنه بين مستخدميها. إن تدوين القديم، وابتكار قواميس وطنية خاصة، يمكن أن يحفظ اللهجة المحلية للأجيال، ولا بأس من تدريسها وتعليمها وترسيخها في عقول النشء، خاصة فصيحها ومصطلحاتها التي جرت على ألسنة ناسها الأولين، كأمثال وأقوال في الحكمة، لأنها تمثل في الأول والآخر هوية هذا المجتمع، وخندقه الأخير في المحافظة على الشخصية المحلية، مثلها مثل اللبس، والأكل، والمسميات، والتسميات، ومتاع الحياة التي تميزنا عن الآخرين، وتعطينا هذه الخصوصية التي تبدو أنها هاربة إلى الأمام دون أن ندري إلى أين؟إن ما نسمعه اليوم من ورود مصطلحات وتعابير مبتكرة ومكسّرة على ألسنة الجيل الطالع، تحتم علينا أن نتبصر، فمرة يجمعون الشامي بالمغربي، ومرة يطعّمونها بكلمات أجنبية، ومرة يكسّرونها كلغة نادل تايلاندي، ومرة أخرى يطلقون بعض التعابير الموسمية والمناسباتية، كلغة سرية، وذات شفرة خاصة فيما بينهم، ولا تعرف من أين يأتون بكل هذا؟ وحين يحب أحدهم أن يتفلسف بعامية مغرقة، وهي في غير محلها، يظهر كمن يتعلم الحبو كبيراً، وتجده يستعمل ألفاظ أمه النسائية أو مصطلحات خالته التي لا تمت للغة الرجال بصلة، فيختلط الحنين بالرغاء. إن العبث بالعامية جرس نعلقه، لا هي دعوة شعوبية، ولا صرخة إقليمية، هي مسألة خصوصية مجتمع، وهوية، فمن يقرع الجرس في حدود المعقول؟ لا نريد أن نتشدق بمحليتنا بداع ومن غير داع، ونعطيها تلك النبرة المغايرة، والمتعالية، كما يفعل البعض، وتعجبني هنا بعض الشعوب التي تلتصق بهم لهجتهم ونبرتها، فلا يستطيعون التخلص منها، ويسحبونها معهم إلى اللغات التي يتعلمونها، فالبحريني مثلاً لو تغرّب ثلاثين عاماً في بلاد الله، وأول ما يرجع إلى المنامة تكون اللهجة البحرينية الرطبة قد سبقته إلى هناك، تجد للمصري لهجته المميزة، وللعراقي لهجته الواضحة، وللتونسي لهجته المحببة، وللمغربي هدرته.. ونحن أربع سنوات في جامعات أميركا، ويرجع مبتعثنا متخربطاً بين لغة جديدة يحبها ويحبها الشارع ويحبها الجميع، وعزيزة عليه ليتعالى بها قليلاً اجتماعياً، وبين عربية متوارية، ويمقتها منذ الصفوف الإعدادية، ويكره صرفها ونحوها، ومحلية غريبة ومتغربة ضاعت مع «وطرها القديم»، والآن تضع «الكاب» على الكندورة»!