انتبه البعض لأهمية الثقافة والأدب والفنون، بعد أعوام طويلة من انعدام الثقة، بل التوجس خيفة من المثقف الذي يقرأ خارج أسوار وملاعب الشأن المحلي في العملية التعليمية والثقافية والمعرفية، وأعني من بداية السبعينات وحتى التسعينات، أي عندما كان هناك معسكران في التأثير العالمي، وعندما كانت هناك منصات ثقافية رائدة في القاهرة وبيروت والعراق وبلاد الشام، وعندما كان الخط الفاصل بين أنواع الثقافة والمثقفين وغيرهم.. وقد كانت المعرفة والقراءة خارج المحظور، تمثّل توجهاً لا يحبه البعض، ولا تطيقه بعض المناطق وخصوصاً في الجزيرة العربية، نظراً لمحافظتها الشديدة وفهمها الخاص لدور التعليم بمؤسساته، وما ينتج عنها من مخرجات يمكن الوثوق بها لتولي الشأن المعرفي والتعليمي والإداري.. ولكن تلك المظاهر اختفت وتناثرت عندما لم تحقق شيئاً، والمنصات الثقافية السابقة مثل بيروت والقاهرة وهنت وتمزقت، وانطفأ ذلك السراج في ظل تحولات سريعة محلياً وعالمياً، وسهل شراء المدعين بالثقافة والحرية وأدعياء الفكر الجديد، بل إن جماعات دينية وحزبية أسقطت كل ذلك الجمال والوعي والتنور في أزمنة المدن المشرقة يوماً، بيروت والقاهرة وغيرهما، ووجدنا أن جدار المثقف والذي كان يصنّف بأنه طليعي يخبو ويضمحل تحت سطوة الأنظمة الديكتاتورية والحزبية، وفرّ كثيرون من هؤلاء إلى بلدان الجزيرة العربية ليلعبوا أدواراً تختلف عما كانوا يقولونه ويفعلونه.. وكل إنتاجهم القديم خير شاهد على تحولاتهم، وأصبحت المهرجانات والاحتفاليات والمؤتمرات الفارغة هي ساحة الجميع. هذا المتغير الكبير أفرز وأظهر مفهوماً جديداً لمثقف الزمن الماضي، فلم تعد القصيدة بتلك القوة والاقتحام، ولم تعد تجرؤ أن تقول للأعور: أنت ترى الظلام وحده. ولم تعد الرواية والمقالة بتلك الجرأة والصراحة، بل تحول الجميع إلى طلاّب لحضور الاحتفالات في الجزيرة العربية أو المغرب، أي في المناطق التي كانت لها صفات ووصفات خاصة عند مثقف ذلك الزمان. لقد تروّض الجميع بمفهوم جديد للمثقف والثقافة. صحيح أن فهم المراحل والزمن هو ذكاء وفطنة، لكي لا يتأخر عن الركب. فمن لديه دراية بتحولات الأزمنة أفضل بكثير من مثقفي السلطان والمبرمَجين والمدجنين على السير بالمطايا، حيث المراعي والمصفقين لكل رفة طائر! والمهرجانات والاحتفاليات ليست بالتأكيد مقياساً لقوة وتأثير الثقافة، وإنما ذلك الجدار الذي يُبنى خطوة بخطوة محققاً التراكم، تماماً مثل الذي يزرع شجرة زيتون أو نخيل ويصبر حتى تأتي الثمار بعد أعوام.. وهذا هو الأجمل.