كل الأفكار هباء.. حتى يلتزم أحدهم بتنفيذها. والهباء هو الذرات التي تطير في الهواء ولا يمكننا ملاحظتها إلا في حالة تسليط الضوء عليها، وكذلك الأفكار مهما بدت مغرية وغير مسبوقة ومهما علا شأن من طرحها لن يكون لها أدنى معنى حتى تتحقق على أرض الواقع. كذلك حال الأفكار التي طرحت في خلوة الإعلام وخلوة مستقبل الثقافة التي أعقبتها، وكذلك التي ستعرضها اليوم القمة الحكومية التي يجتمع فيها أهم المتحدثين حول العالم لينقلوا خلاصة أفكارهم وأكثرها تصدراً للأجندة العالمية - حول موضوعات السعادة والذكاء الاصطناعي واستيطان الفضاء والتغير المناخي والشباب العربي- وهي مئات الأفكار والأطروحات المجربة أو على أقل تقدير يطرحها أصحاب تجارب عالمية، ستعرض أمام المسؤولين التنفيذيين ممن حظوا بفرصة الحضور في الخلوات أو في القمة العالمية، إنها أفكار بلا شك تعد ثروة حقيقية في حالة واحدة فقط.. حالة تنفيذها. الأفكار تتطاير طوال الوقت كالهواء حولنا، بعضنا يتنفسه ليكمل حياته فقط، وبعضنا يتنفس الهواء ولكن بفن، فيجعل بين كل عملية شهيق وعملية زفير فرصة لجذب طاقة إيجابية ومساحة لإبداع مختلف. ولكي لا تصبح تلك الأفكار كالهواء العادي، علينا أن نستغلها وننفذها لتصبح واقعاً ذا جدوى في حياتنا. ولهذا السبب بالذات، كانت الدعوات لهذه الملتقيات للمعنيين بالعملية التنفيذية، لا لكونهم أكثر قدرة على إنتاج الأفكار من غيرهم، إنما لكونهم المعنيين الرئيسين بتنفيذ هذه الأفكار. وهو ما يرفع من درجة مسؤوليتهم أمام القيادة السياسية التي دعتهم سواء للخلوات أو وفرت لهم كل الإمكانات كما في القمة الحكومية، ليستلهموا من أنجع الخبرات العالمية في كل المجالات. لم تعد الفكرة «غير المسبوقة» ثروة، كما كان ذلك قبل ربع قرن من الآن، فقد أنتجت البشرية خلال هذه الفترة ما يقارب كل ما أنتجته منذ العصر الحجري، ومع كل وسائل المعرفة المتوافرة وأشكال التواصل، أصبح توليد الأفكار الجديدة عبئاً إلى حد كبير على كثير من الأوساط، وما انتشار الدعوات إلى التركيز وعدم تشتيت الطاقة إلا دليل على ما تصنعه كثرة الأفكار في الناس والمؤسسات من إرباك. الثروة الحقيقية التي سيبحث عنها مستقبلاً صانع القرار السياسي، هم التنفيذيون الذين يملكون الإرادة والرغبة في تحقيق الأفكار.. فلا حياة لفكرة لا يرغب بها صاحبها، ولا وجود لفكرة لا يملك صاحبها القدرة على تنفيذها.